للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أعداؤنا الثلاثة]

كانت (الرسالة) أول من حصر أعداؤنا الثلاثة في الجهل والفقر والمرض حين اقترحت على وزارة الشؤون الاجتماعية أن تحرر دستورها الإصلاحي تحت هذه العناوين، لأنها جُمّاع الملل التي يصدر عنها كل فساد وينجم منها كل شر؛ وقالت يومئذ: إن هذه الوزارة تجديد رسمي لدعوة النبوة، فملاك الأمر فيها الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل رأي في وجهه، وكل عمل في وقته، وكل أمر في أهله. ثم انتظرنا وانتظر الناس، فإذا هي وزارة كسائر الوزارات: مكاتب وكتاب، وسعاة وحجاب، وأوراق تفرق وتجمع، وأرزاق تقّدر وتوزّع، ثم علم من غير عمل، أو عمل من غير علم؛ وإذا نحن بعد ثماني سنوات من عمرها لا نزال من الأمية والفاقة والعلة في الموضع الذي كنا فيه إذا لم نكن تأخرنا عنه. ذلك لأنها وزعت جهدها الضئيل ومالها القليل على ما سلبت من اختصاص الوزارات فعجزت عن أداء ما خلقت له؛ وتعاقب عليها الوزراء والوكلاء تعاقب الظلال الخفاقة ثم يمهلوا حتى ينضجوا الرأي ويرسموا الخطة ويبتغوا الوسيلة. فإذا سنح لها خاطر في الإصلاح بدأته من آخره أو أخذته من طرفه فينتشر عليها الأمر وتلتبس أمامها الوجهة. فالأمل إذن في استعدائها على الجهل والفقر والمرض وهي مصابة بهن جميعاً أشبه الأشياء باستثمار الصفصاف واستيراد العقيم. ولكن علل الشقاء المصري كانت قد برزت في وعينا القومي بروز العقيدة الراسخة والضرورة الملحة، فهي تثب إلى العيون وثوب الحصى، وتقع في القلوب وقوع النبل، فمن حاول أن يفر منها أو يغضي عنها كان كالمصحر في وسط الزوبعة أنى اتجه وجد الرمل في وجهه والظلام في وجهته. وذلك مثل الذين تزعموا نهضة الأمة في مدى ربع قرن فقصروا الجهود وحصروا الأفكار في مكافحة العدو الرابع وهو الاحتلال. ولو كتب الله لهم التوفيق لشبوها على الأعداء الأربعة في وقت واحد؛ ولو مهد لهم سبيل الفوز لجعلوا الميدان الأول للعدو الأول وهو الجهل؛ لأنه هو الذي ولد الفقر والمرض ثم استعان بهما على سلب الاستقلال، وجلب الاحتلال، وقتل الروح القومية في الشعب، فلم يكن له رأي عام لنقص إدراكه، ولا خير مشترك لضعف إنتاجه، ولا كيان صحيح لوهن جسمه. ولكن زعماءنا اختاروا أسلم الميادين، ونهجوا أسهل الطرق، وابتغوا عرض الحياة، لأن محاربة الاحتلال لا تكلفهم غير تأليف المظاهرات وإنشاء المقالات وإلقاء الخطب، ثم تنتهي بهم وشيكاً إلى الحكم والثروة والجاه عن طريق

<<  <  ج:
ص:  >  >>