(كلا لا تطعهم واسجد واقترب) هكذا كان ينبعث الصوت خافتا واضحا عذبا حنونا، وهكذا كان يتردد الصوت في صدر الرسول وهو وسط الكفار والمشركين والمنافقين والمستهزئين من أهل مكة. فإذا ما تغامزوا عليه، وإذا ما تآمروا على قتله، وإذا ما استهزأوا بوحيه، وإذا ما سبوه ولعنوه وتهجموا عليه، كان هذا الصوت الخافت الحنون يكرر ويعيد:(كلا لا تطعهم واسجد واقترب)
ولكن آل الرسول وآل عبد المطلب، كانوا أعزاء في قريش، وكان الرسول محمياً بعزتهم مطمئناً للوحي الذي ينزل على قلبه. أما المسلمون المستضعفون، أما العبيد وأما الإماء، فلم تكن لهم عزة ولم يكن لديهم وحي، وإنما إيمان هو كل ما يملكون. ومتى درأ الإيمان عن صاحبه العذاب؟ بل متى لم يجلب الإيمان لصاحبه عذابا؟ ورأى الرسول عذاب هؤلاء المؤمنين المستضعفين فأمرهم بالهجرة من مكة، ولم تكن هجرة في الإسلام بعد فقالوا له حائرين؟ وإلى أين نهاجر يا رسول الله؟ قال إلى الحبشة، فان بها ملكاً عادلا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا.
وفر قلة من المسلمين بدينهم لأول مرة ملتجئين إلى النجاشي العادل ملك الحبشة، فآواهم ونصرهم وأقاموا عنده في خير جوار لم يؤذوا ولم يسمعوا شيئاً يكرهونه، ولكن قومهم بمكة عز عليهم هذا الفرار، أو قل عنَّ عليهم أن يتلقاهم النجاشي هذا اللقاء. فأرسوا وراءهم عظيمين من عظمائهم مزودين بالهدايا الثمينة ليأتيا بهم من أرض النجاشي العادل.
وفد العظيمان على أرض الحبشة فوزعا هداياهم على أساقفة النجاشي العادل، وفي الغد قدما عليه وهو جالس على عرشه في أبهة الملك وعزته وسطوته وقدما له هداياهما وقالا له (أيها الملك أنه قد أوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاءوا بدين جديد ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا انتم. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا واعلم بما عابوا عليهم)
أنصت النجاشي العادل إلى قولهما وإذا أساقفته تصيح معهما (صدقا أيها الملك. قومهم أعلى بهم عينا. فأسلمهم إليهما) وهاج النجاشي قولهما وثار لموافقة أساقفة لهما فقال غاضبا (لا