لم يرقها اليوم أن تجلس إلى المرآة جلستها الطويلة، فدلفت إلى النافذة تنوء بهم ثقيل على صدرها، واتكأت بمرفقها على حافة المقعد، ثم أزاحت السجف وجلست ترقب الطريق. وصك أذنيها غناء المغنيات في بيت جارتها كريهاً نابياً كأنما ينعى إليها الشباب. .!
لقد جاوزت (إحسان) العشرين وما تزال قعيدة الدار، تنتظر الخاطب المجهول يدق الباب ليطلب يدها. أتراها لم تكن أجمل من فلانة وفلانة وفلانة؟ بلى، وإنها لخير منهن؛ ولكنهن تزوجن جميعاً وانتهى بهن القدر إلى المستقبل الذي تحلم به كل فتاة، وهي وحدها ما تزال تنتظر. .!
وأخذ الزمن يتراجع، كما تطوى سبيبة الخيالة فإذا هي ما تزال بنت السادسة عشرة؛ تزدهيها فتنة الجمال، وتسيطر على نفسها كبرياء الغنى، وتعبث بها أهواء الأنوثة الباكرة؛ وإذا هي بين أترابها في المدرسة - كما كانت - معقد المنى، وجوى الخواطر، وملتقى نظرات الغبطة، لم يجتمع لواحدة من رفيقاتها يومئذ ما اجتمع لها ما تفخر به الفتاة؛ فلم تكن لتشاركهن الحديث إلا على كبرياء وأنفة؛ وحين يجري حديث الشبان بينهن في همسٍ موسيقي مطرب، كانت تمط شفتيها في سخرية عابثة، ثقةً بأنها الفتاة المرموقة المشتهاة، كأن على من دونها من الفتيات أن ينتظرن ريثما تختار هي فتاها المجدود، ثم تترك لهن من بعد حق الأمل في الزوج الذي يشتهين. . .!
وكان لها من نشأتها وجاه أبيها ما يفسح لها في الأمل، ويمد لها أسباب المنى العريضة. ولكن أباها قد مات! أفينقص من شرفها وجمالها وثرائها أن أباها قد مات. . فأين الخطاب يزدلفون إليها ويزدحمون ببابها في طلب الرضا والقبول؟
إنها لرهينة الدار منذ سنوات خمس؛ فلا تبصر الطريق - على رغم عصريتها - إلا من خصاص النافذة، ولا تفارق محبسها إلا في ظل أمها الأيم العجوز؛ فلم تكن تعرف من