للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عشرة أيام في الشام]

للأستاذ علي الطنطاوي

يمضي المسافر أياما طوالا لا يقطع فيها إلا أذرعا من طريقه، ثم يجتاز الفراسخ والأميال في ساعات ويعيش المرء سنين لا يفهم فيها من أسرار الحياة، ولا يرى من معالم الكون إلا الأقل، ثم يرى في لحظة أخفى المعالم، ويفهم اعمق الأسرار، وكذلك شأني:

سرت على طريقة العمر قريبا من أربعين سنة، فلم أدرك من حقائق الحياة حولي، ولم اعرف من خلائق الناس مثل الذي أدركته وعرفته في هذه الأيام العشرة التي (طرت) فيها فجأة إلى دمشق، ثم عدت طائرا منها، وعلى دين أكاد اعجز عن قضائه لا اعرف السبيل إلى استرضائه ولكني مع هذا عدت رابحا لأني تعلمت فصولا من كتاب الحياة كنت أجهلها وهذا قليل من كثير مما تعلمت:

- ١ -

كان أقصى علمي بالصديق انه الذي يألفني وألفه، ويأنس بي وانس به، ويسال عني أن غبت ويزورني أن حضرت ويستقبلني أن زرته، ويصغي أن حدثته، وكنت اعتز بصداقات رجال احسبني نلت بهم ما تمناه المأمون وهو خليفة وعجز عنه، وما عده الأولون ثالث المستحيلات، وحشروه مع الغول والعنقاء ولم احتج إلى واحد منهم كي أجربه فلما كانت هذه التجربة (تجربة دخول الانتخابات) رأيت أكثر هذه الصداقات كأنها بقايا ثلوج الشتاء تحت شمس الصيف سرعان ما يذهب بياضها ونقاؤها ثم تذوب ثم تجري على التراب فتكون سواقي عكرة تنحدر إلى الحضيض، بعد أن كانت في العلاء ما بقي بين يدي من هذه المودات إلا كالذي يبقى من هاتيك الثلوج على صخور الجبل!

لقد تنكر لي رجال كانوا رفاقي في السفر وفي الحضر، وإخواني في الصبا والشباب، واعرضوا عني إيثاراً للراحة، أو هرباً من إغضاب الحكومة، أو فروا من المشاكل وحبسوا عن مساعدتي أقلاماً لهم والسنة طالما شددت أزرها، ودافعت عنها بقلمي ولساني، وامسكوا عن نصرتي أكفاً طالما امتدت إليها_مصافحة مؤازرة_كفى. وقالوا ما لنا ولمرشح نساعده على الحكومة ونقويه عليها، وهي ذات السلطان وبيدها العطاء والحرمان؟

ونسوا إني موظف في الحكومة، لست عدوا لها، ونسوا عهود الإخاء، وأيام الصفاء هذا وما

<<  <  ج:
ص:  >  >>