وماذا يقول الأستاذ في قول الله تعالى:(والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)؟ لقد ذكر أن تشبيه زرقة البنفسج بأوائل النار في أطراف الكبريت ليس شيئاً لأنه ينقلنا من جو الزهر والجمال إلى جو اللهب والاختناق، ولم ينظر إلى فنّية التشبيه، ولا إلى ندرته. فهل يقول في هذا التشبيه في الآية الكريمة إنه ليس شيئاً أيضاً؛ لأن القمر مسكنه في السماء والعرجون مسكنه في الأرض، والقمر من فصيلة الكواكب، والعرجون من فصيلة النبات، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه حقير لا تكاد تظهر له فائدة؟ وهل تخسر البلاغة القرآنية شيئاً إذا وقف الأمر عند حد تشبيه القمر حين يحتضر في آخر الشهر فيدق وينحني ويصفر بالعرجون المحول الذي دق وانحنى واصفر، ولا يلاحظ شيء وراء ذلك مما توجبه صورة العرجون وبيئته وتفاهته؟
لابد إذن أن نكون مع علماء البلاغة حين يرون أن القصد من التشبيه ليس فقط إثارة جو عام بين المشبه والمشبه به أو أنه منبع لمعان تتداعى يجب أن نتلمس آثارها في النفس، ويكفي أن نقول معهم إن التشبيه بالمحس المشاهد يحدث نوع اطمئنان، وأن السامع قبل أن تذكر له التشبيه قد يكون الكلام عنده غامضاً مضطرباً حتى إذا شبهت استقر القول في نفسه، وأنت قد تبالغ في القول ولا تدع مزيداً في الإسراف فلا يكون ما يكون حين تشبه بشيء مُحَسّ فتقول مثلاً: يوم بلغ في القصر نهايته، وليس وراء هذا القصر قصر، وما علمت يوماً أقصر منه، ولكن هذه العبارات مجتمعة لا تفيد ما يفيده قول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب
(سالفة الذباب: ناصية مقدم العنق).
وكما أن للتشبيه هذا الأثر فكذلك التمثيل، فحين يقول ابن الرومي:
وإذا امرؤ مدح امرءواً لنواله ... وأطال فيه فقد أطال هجاءه
تأخذ السامع موجة من الشك في صدق هذا المعنى، ولكنه حين يسمع قوله بعده:
لو لم يقدر فيه بُعد المستقى ... عند الورود لَما أطال رشاءه