كانت (سمية) جالسة إلى مكتبها في الغرفة العليا من إدارة (شركة المبيعات الوطنية) وبين يديها الآلة الكاتبة تنقر عليها بأصابعها وهي تترنح وتهتز في مرح ونشوة كأنما توقع لحناً موسيقياً تناجي به أمنية عزيزة من أمنيات الشباب، وكان على شفتيها ابتسامة راضية كأنها من الأمل الذي تأمله على ميعاد؛ وإنها لجالسة مجلسها ذلك منذ ساعات لم ترفع رأسها ولم تبرح مقعدها، ولكن في وجنتيها حمرة ناضرة كأنما هي عائدة لساعتها من مجلس قصف وشراب؛ وكان في السماء برق ورعد ومطر، ولكن في قلبها هدوء الثقة وروح الاطمئنان.
وفرغت (سمية) من نقش الرسالة التي بين يديها، فكفت أصابعها عن الحركة وراحت تخلص الورقة من بين أضراس الآلة الكاتبة وهي تغني في صوت هامس أغنية من أغنيات الهوى والشباب. ثم نظرت في ساعتها وهمت أن تنهض لميعاد الغداء؛ ودق الجرس، وهبت سمية واقفة لترد تحية المدير الشاب، ثم استأذنت ومضت معجلة إلى مثواها حيث تتوقع أن يكون أخوها في انتظارها لموعده على الغداء. . .
لقد كانت سمية سعيدة بحياتها على ما فيها من نَصَب وجهد ورزق محدود؛ إذ كان لها نفس راضية قنوع، لا تتطلع إلى ما لا تملك، ولا تعرف من أيامها غير اليوم الذي تعيش فيه؛ فلا هي تذكر ماضياً تأسى عليه، ولا غداً تتشوق إليه؛ فوجدت سعادة الرضا حين فقدت سعادة المال ورفاهة الغنى، وتعوضت من شيء بشيء.
على أنها لم تكن كذلك في ماضيها؛ فقد كان أبوها رجلاً من رجال المال، وكان له جاه وصيت وشفاعة، ولكنها لم تدركه حين أدركته إلا شيخاً حُطمة قد لبسه الدهر فأخلقه وذهب بماله وجاهه، فلم يترك لها حين آن أوانه إلا حطاماً من الذكريات، وخلفها وأخاها وحيدين فقيرين تتدافع بهما أمواج الحياة من شاطئ إلى شاطئ غُثاء من غثاء البحر أو زبداً طافياً على الماء!
على أن من كرم الله على سمية أنها لم تفتح عينيها للحياة إلا على نور ذبالة توشك أن تنطفئ؛ وباكرها اليُتم والفقر قبل أن تذوق سعادة الاجتماع ورفاهة الغنى؛ فلم تشعر بمرارة