أصبح الرجل محزوناً كاسف البال، لم يبرح غرفته بل لم يبرح مكانه، وإنما هو مقيم حيث تركه ابنه عبد الله أمس، ساكنا لا يريم، صامتاً لا ينبس؛ وقد ارتسمت على وجهه أسارير من الحزن لا تخفى، وتراءت في قسماته ملامح من القلق الممض المشجي. . . بل كانت لا تخفى في عينيه علائم السهر الطويل. . . ومن يدري فربما انقضت هذه الليلة ولم يغمض له جفن، وربما أرق ليلة الأمس كذلك، وربما طواهما مسهداً في هذه الغرفة التي لا يبرحها. . . إنه يفكر تفكيراً طويلاً. . يفكر ويخاطب نفسه ويقلب كفيه، ويهمهم وإنه لينظر نظر الشجي (استعملتك على ظلمك وكثرة القالة فيك. .) والله لقد خلتها يا عثمان. . .! ثم يعود فيردد:(لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت!). . إن الحزن ليشتد بالرجل وإن الدمع ليترقرق في عينيه وإنه ليحني رأسه ويصمت صمتاً طويلاً. . وبينما هو في ذلك إذا يد خفيفة تمر على كتفه في رفق، وإذا صوت رقيق يهتف به:(رويدك يا ابن العاص. .) فيلتفت إليه ويقول: (حتى نحن يا سلامة. .). فيجيبه:(لقد متع الضحى) فيسترسل الرجل مرة أخرى في تفكيره ثم يقول: (رحمك الله يا ابن حنتمة. . والله لقد كانت فيك على شدتك رقة، وعلى جفائك وداً. . أما هذا. . أما هذا. .) فيقاطعه سلامة قائلاً: فليغفر له الله. . . (فيرد عليه محتداً. .) لا يا ابن روح. . لا غفر الله له أبداً. . لا غفر الله له أبداً. . لقد وليها عامرة. . ولن يعفيها حتى ينعق عليها البوم. . لقد عملنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرضى عنا، وعملنا لخليفته فأكرمنا. . وعملنا لعمر فانصرف عنا قرير العين، ثم جاءت أيامك يا ابن عفان. .! ويصمت الرجلان صمتاً بليغاً، ويسرع بهما الفكر إلى الجزيرة التي فرا بنفسيهما منها. . واطمأنا إلى الراحة في هذا القصر الذي يملكه عمرو في فلسطين، فهذه جزيرة العرب تموج موجاً وتضطرب اضطراباً، وقد فوقت إليها الفتنة سهاماً صائبات. . واصطلحت عليها من الشر حادثات. . وهذا عثمان في بيته بالمدينة وحيداً لا يطرق بابه أحد، فريداً لا يذكره أخ ولا ناصح بعد الذي كان من تقريبه آل أمية وآل مروان، وبعد الذي كان من خصومته مع علي وازوراره عن طلحة والزبير وعزله الصالحين من ولاة عمر. . وهاهي ذي الفتنة تتحرك في