غمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة، وأني لم أعد من أهل الدنيا، ماذا حدث؟! وما الذي تغير فيّ؟! مازلت في الحجرة. والحجرة كما كانت، فأمي وزوجي تحنوان على جسمي، ولكن حدث شيء بلا ريب، بل أخطر الأشياء جميعاً. لم أوخذ على غرة. ولو كان بي قدرة على الكلام لأجبت زوجي - حين سألتني (توتي. . . ماذا تجد؟) بأني أموت. ولكني فقدت قدرتي على الكلام وغيره. فلم أوخذ على غرة كما قلت، وشعرت بزورة الموت كما يشعر المضطجع بدبيب الكرى وتخدير النعاس. ثم رأيته جهرة. والذي لا شك فيه أن الموت مؤلماً ولا مفزعاً كما يتوهم البشر، ولو عرف حقيقته الحيّ لنشده كما ينشد نشوة الخمر المعتقة، وفضلاً عن هذا وذاك فلا يخامر المحتضر أسف ولا حزن بل الحياة تبدو شيئاً تافهاً حقيراً إذا ما تخايل في الأفق ذاك النور الإلهي البهيج. كنت مكبلاً بالأغلال فانفكت أغلالي. كنت حبيساً في قمقم فانطلق سراحي. كنت ثقيلاً مشدوداً إلى الأرض فخلصت من ثقلي وأرسلت وثاقي. كنت محدوداً فصرت بغير حدود. كنت حواس قصيرة المدى فانقلبت حساً شاملا كله بصر وكله سمع وكله عقل، فاستطعت أن أدرك في وقت واحد ما فوقي وما تحتي وما يحيط بي، كأنما هجرت الجسم الراقد أمامي لأتخذ من الكون جميعاً جسماً جديداً. حدث هذا التغيير الشامل الذي يجل عن الوصف في لحظة من الزمان، بيد أني ما برحت أشعر بأني لم أغادر الحجرة التي شهدت أسعد أيام حياتي السابقة. كأن العناية وكلتني بجسمي القديم حتى ينتهي إلى مستقرة الأخير، فجعلت أتأمل ما حولي في سكون وعدم اكتراث. وقد غشى جو الحجرة حزن وكآبة، وأخذت أمي وزوجي تتعاونان على إنامة جسمي على الفراش، ثم قبلت زوجي جبيني. ولثمت أمي قدمي، ونادتا أبنائي والخدم. وراحوا جميعاً يعولون وينتحبون، رأيت جسمي - صاحبي القديم - بملامحه المعهودة راقداً لا حراك به، وقد ابيض لونه وشابته زرقة وتراخت أعضاؤه وأطبق جفناه، ومضى الحاضرون يسكبون عليه الدمع الغزير يكادون يهلكون كمداً وحزناً وغماً. ومضيت أنظر إليهم بعدم اكتراث غريب كأنه لم تربطني بهم يوماً آصرة قربى! ما هذا الجسم