صخاب ثائر لا يقر له قرار، ينبعث صوته الغليظ الضخم من قاع حنجرته فإذا به مثله خوار الثوار إذا اهتاج؛ وانه ليحدث من الضجيج وحده مالا يحدثه نفر من الرجال مجتمعين، وما انبعث جلبة من الشارع في اي ساعة من النهار أو الليل إلا ردها أهل الحي اليه؛ ولا شهدوا زحمة أما دكانه إلا أيقنوا إنها (خناقة) وهو بطلها، ولا وقعت مشاجرة فعلا إلا سألوا من المضروب هذه المرة فما يقع في وهمهم قط إلا انه هو الضارب، وما احسبهم لو رعدت السماء وأرقت إلا ظنوا بادئ الرأي انه بدا إحدى معاركه. . ذلك هو بائع عصير القصب الذي ابتلانا به الله فجعل دكانه تجاه بيتنا يفصل بيننا وبينه الشارع، والذي استغنى به من يخوفون الأطفال عن (البعبع) والغول والدب وأبى رجل مسلوخة واضرابها، ولا عجب فانه والله لحري أن يخوف به الرجال.
فظ غليظ في حدود الأربعين، بين الطول والقصر، متكرش كأنه بطنه قربة سقاه تحت ثوبه تترجرج، ضخم الزندين، متشحم العاتقين، غليظ العنق، منتفخ الأوداج، مترهل اللغاديد، صغير الراس حتى لتبدو عمامته الصوفية البيضاء نصف وجهه، مفتول الشاربين صغير الحدقتين ضيق الجبهة، واسع الفم طويل الأنياب: يحسبك أن تنظر إليه لتوقن أن في بني ادم من ينتسبون إلى الآدمية ظلماً. .
وقف هذا العتل أما دكانه يصفع بيده الغليظة (صبيه) وهو فتى في نحو الخامسة والعشرين قصير غير بدين ولا نحيف، وعجبت إذ رايته مطرقا مسبل العينين وملابس العمل تحت إبطه، لا يتحرك إلا بقدر ما يتحاشى الصفعات واللكمات ولكنها تنزل جميعا على وجهه وقفاه وعاتقيه؛ والمني هذا العدوان وما فيه من فظاظه كما أحزنتني هذه المذلة التي كثير ما يكرب نفسي أمثالها، ولعمرك ما أتألم لشيء ولا اثور لمنظر بقدر ما أتألم وأثور لمرائ إنسان في موقف المذلة حتى لو كان من الأثمين؛ ولطالما سالت نفسي متى اج في شعبنا هذا من الأنفة والحفاظ ما ينسيه ذل القرون وأقول متى يستكبر عامة الناس في هذه الأمة فيتطامن لهم من عليته وغاصبيه المستكبرين؟
وحسبت أول الأمر أن هذا العامل قد اقترف سرقة أو خيانة، حتى سمعته يقول وهو مسبل