يلتهم الدب الروسي الآن فنلندا كما التهم النمر الألماني من قبل بولندا! وما هذه وتلك - حفظك الله - إلا أكلة اليوم! أما أكلات الغد وما بعده فعلمها لا يزال عند هذين الوحشين اللذين ينقِّلان النظر المحمرَّ من أوربا الشمالية إلى أوربا الشرقية، ومن آسيا الصغرى إلى آسيا الوسطى؛ والدول الصغيرة ترى هذه العيون المتقدة والأفواه المتحلبة فترتعد فرقاً من الخطر المهاجم والعاقبة المبهمة. ولقد كان لهذه الدويلات الغريرة فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة، فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حرة آمنة لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني. فلما كفر النازيون والشيوعيون بشرائع الله وقوانين الناس أخذوا العالم بسياسة السمك التي تجعل الضعيف طعاماً للقوي، ففسد النظام وفقد السلام، واختل التوازن، واضطربت الحياة، وذل الحق، وأفلس المنطق، وأخذت جماعات السمك الصغير الرخو تضطرب اضطراب القلق والحيرة بين الحيتان الدكتاتورية التي لا تريد أن تبقي على سمكة، وبين التماسيح الديمقراطية التي لا تريد أن تُبقي على حوت
كان ضمان العيش والاستقلال للدول الصغرى ذلك النظام السياسي الذي وضعته الدول الكبرى وسمته (التوازن الدولي) وحمته بالقوانين والمواثيق والمعاهدات والمحالفات وعصبة الأمم، فجعلت من بعض هذه الدويلات حدوداً فاصلة، ومن بعضها الآخر أسواقاً مشتركة، حتى لا يبغي حد على حد، ولا تطغى قوة على قوة. ولكن هتلر رسول الشيطان ونبي الألمان وخليفة نيتشه، قضى بالموت على الدول الصغرى وقرر ألا يحكم الأرض غير دولتين: دولة ملكة هي ألمانيا، ودولة وزيرة هي إنجلترا كما كان رأيه بالأمس، وروسيا كما أصبح رأيه اليوم! فليت شعري ماذا تصنع هذه الدويلات وصغرها عمل من أعمال الطبيعة لا حيلة فيه لمحتال، كما يقصر شخص عن شخص، ويصغر شيء عن شيء؟ ليس لها الآن إلا أن تنضوي إلى الأمم الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها؛ حتى إذا أنتصر الأحلاف على هذا