كان ذلك المنزل القديم الجميل المعروف باسم (أوتيل دي بيرون) الواقع في شارع هادئ على ضفة اليسرى لنهر السين بباريس - كان إلى عهد قريب مقراً لدير (قلب المقدس) ولكن بعد أن ألغيت الرهبنة النسوية شغله بضعة مستأجرين من بينهم رودان.
وللفنان كما رأينا مراسم أخرى في ميدون، وفي مستودع الرخام بباريس؛ غير أن له ولعاً خاصاً بهذا المنزل الذي بنى بالبلدة في القرن الثامن عشر لأسرة سطوة وجاه. وهو مسكن جميل تشتهيه نفس كل فنان، فغرفه الكبيرة عالية، بحوائطها حشوات بيض يطيف بها حُلّي بارزة مموهة بالزخرف واللون الأبيض. أما الغرفة التي اختارها رودان ليعمل فيها فمستديرة تطل نوافذها الفرنسية العالية على حديقة غناء أهملت وطال عليها الإهمال. ومع ذلك فلا زال من المستطاع متابعة صفوف الأشجار التي تقوم على حوافي الطرقات والممرات المعشوشبة ورؤية بعض النباتات الخضراء المقامة على العرائش وقد ركبتها أنجم متسلقة عجيبة وفي كل ربيع تتفتح الأزهار الناضرة من بين الحشائش الكثة التي تملأ حاشية الحديقة. ولا يتسنى لشيء أن يبعث في النفس كآبة حلوة أكثر من هذا المنظر الذي يتلاشى فيه عمل الإنسان ويمحى رويداً رويداً بيد الطبيعة القاهرة.
يقضي رودان أكثر وقته في الرسم بذلك المنزل. ويحب أن يخلو إلى نفسه في هذا المنعزل الهادئ، وستودع الورق أشكالاً لا أعداد لها من الأوضاع الجميلة التي تتخذها المثل البشرية أمام عينيه.
وفي مساء أحد الأيام كنت أنظر معه في طائفة من تلك الرسوم، وكنت أبدي إعجابي بتلك الخطوط المؤتلفة المتزنة التي استطاع بها أم يبرز كل انسجام الجسم الإنساني على الورق. أما الخطوط التي عملت بجرة واحدة قوية من جرات القلم فتبدأ حدة حركات أو فتورها