الآن يصل أخونا (الغمراوي) إلى النهاية البائسة التي وصل إليها إخوانه من قبل. فهم وهو، يظلون متماسكين - بعض الشيء - وهم يدورون بالكلام ويلفون حول الأشخاص بالجمل العائمة والتعبيرات التي ينبت رأسها في ذيلها - وبالعكس! - حتى إذا بلغوا الحديث عن النماذج، ولمسوا جانب الأحكام الأدبية، (آن لأبي حنيفة أن يمد رجله)!
من كان ينظر إلى (الجمال) وينظر إلى (الحب) نظرة (العقاد) التي أسلفنا عنها الحديث في مقالي (سارة) وفي مقالي (غزل العقاد) فهو خليق أن يسمعنا من
(الغزل) - تعبيراً عن أثر الجمال والحب في نفسه - أنماطاً أخرى غير ما عهدناه في الشعر العربي قديمه وحديثه، وأن يكون في هذا الغزل صاحب (خصوصية) أولا، وصاحب (فلسفة) شاملة ثانياً
وليقل بعض الجهلاء الغلاظ ما يشاءون عن فلسفة الشاعر، ولينكروا أن يكون لكل شاعر كبير فلسفة خاصة، يفسر بها الحياة كما تنطبع في نفسه النموذجية، لا نتيجة (التأمل) وحده كما يفهمون، بل نتيجة الفطرة الممتازة كذلك، ونتيجة الطبع المتفرد، الذي تهبه الحياة لصاحبه، وهي ترتقب منه دنيا جديدة يخلقها، لا كدنيا الناس، تضمها إلى متحفها الضخم الفريد
والعقاد في غزله يجيبان إلى ما نترقب، ويرتفع فوقه درجات، ويحيل الدنيا - حين يحب - متحفاً حياً من الصور والحالات النفسية، ومن شخوص اللحظات والليالي والأيام التي تدب وتتنفس وتحيا! ومن الألوان والظلال التي تلقيها المواقف والآلام والأحلام والآمال؛ ومن الأصداء المنبعثة من أوتار نفس متعددة الأوتار
هي دنيا عجيبة يعيش فيها القارئ بضع ساعات، فيلتقي فيها بوجوه عدة، وأنماط من الشخوص نادرة، ويرى هناك نفساً - بل نفوساً - هادئة ثائرة، راضية ساخطة، بانية هادمة، محلقة في الرجاء، وجاثية في القنوط أو محيرة في الشك والارتياب، ويجدها روحانية ترفرف بأجنحة من السماء تارة، وبوهيمية تلتهم قطوف الواقع تارة، وكثيراً ما