لقيني الأستاذ عز الدين التنوخي، وكنت قادماً من سفر فقال لي: هلمّ!
قلت: إلى أين؟
قال: إلى الجبل نزور أمير البيان، ورجل الإسلام شكيب أرسلان
قلت: ما أعدل والله بزيارته شيئاً؛ ولكني آت من سفر ولم أبلغ داري
قال: اطمئن فان الدار في محلها لم تطر، وما عليك أن تراها غداً؟
قلت: ما علي من شيء، وسرت معه. ولم أعد أرى السفر شيئاً، لأني أصبحت في هذه السنين الأواخر كذلك الذي كان (موكلاً بفضاء الله يذرعه) فلا أكاد ألقي عصا التسيار وأحط الرحال من سفر، حتى أتهيأ لآخر. أطوّف ما أطوّف، ثم آوي إلى هذه الغرفة الصغيرة أجلس بين ركام الكتب أحسب ما كسبت من هذا العناء الطويل، فلا أجدني كسبت إلا صوراً في الذاكرة أضمها إلى صور، وذكرى في النفس أجمعها بذكري، وصفحة في دفتري أضيفها إلى صفحة أسعد بتدوينها، وأسرّ ببقائها، وإن كنت لا أدوّن إلا الأقل مما أراه وأشعر به، ولا أذكر إلا التافه مما يمر بي. وإن كنت أعلم أن صور الذاكرة إلى امحاء، وذكريات النفس إلى ضياع، وقصص الدفتر إلى السكين والنار لا يزهدني ذلك بها، ولا يصرفني عنها، لعلمي أن الحياة نفسها ستموت، والوجود سيعدم، ولا يبقى في الوجود إلا الموجد
وكنا خمسة في السيارة: الأستاذ التنوخي، وأنا، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ الشيخ بهجة الأثري، والشيخ ياسين الرداف معتمد المملكة السعودية في دمشق سابقاً. . .
خرجنا من دمشق مع الغروب. . . وكان اليوم جمعة، وكانت ليلة قمراء، فسالت الطرق بالدمشقيين على عادتهم في مثل هذه الليالي فامتلأت جوانب بردى، والمرجة الخضراء، والربوة، ووادي الشاذروان أجمل أودية الدنيا وأحلاها - بخير الفتيان، وأجمل الفتيات، وأحلى الأطفال؛ فلم يكن أمتع للعين، ولا أشهى للقلب، من ذلك المشهد. فسرنا في هذا العالم الساحر، مترفقين متمهلين، لأننا لا نمشي في طريق وإنما نمشي في بحر من العيون