للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حلبي يزور باريس]

في سنة ١٨٦٧

للدكتور حسين فوزي

هذا الحلبي هو الخواجة فرنسيس، شخص إلى باريس لدراسة الطب سنة ١٨٦٦ وترك لنا عن رحلته أثراً فذاً: كتاباً طبع في بيروت سنة ١٨٦٧، عثرت عليه أخيراً في مكتبة المرحوم والدي. والغالب أن الخواجا فرنسيس كان رجلاً رقيق الحال، لا لأن كتابه الذي يقع في سبعين صفحة قد طبع على نفقة غيره فحسب، بل لأن (غيره) هذا نعت نفسه بالعبد الفقير حنا النجار. تصور إذاً ماذا كان المؤلف وهذا ناشره عبد فقير! ومع ذلك عني هذا العبد الفقير بكتاب الخواجا عناية فائقة، فوشى أركان غلافه بنقوش ملتوية ورسوم ورود وأوراق أشجار، وطبع فوق عنوان الكتاب طغراء فرنسية يظهر للمدقق فيها شكل نسر نابليوني واقف على حسام يتطاير منه الشرر (أو هي صواعق جوبيتر؟) وتحيط به قلادة (اللجيون دونير) يتدلى منها الصليب الذي خصصه نابليون لرجاله الشجعان. والعبد الفقير حنا النجار كان رجلا عصرياً محباً للتقدم إذ طبع على ظهر الغلاف قاطرة بخارية ذات مدخنة عالية ترسل عموداً كثيفاً من الدخان، وباخرة ذات مدخنة أعلى تطلق سحباً من الدخان وهي تمخر العباب برفاصات جانبية كالتي لا نزال نراها في بواخر النيل

ورحالتنا يمكن أن يلقب بذي الصناعتين، فهو مالك أعنة النظم والنثر، شاعر حتى في نثره، وناثر حتى في شعره. وسنرى كيف استطاع أن يعهد إلى النظم بوصف نثري لباريس، وكيف عهد إلى النثر بوصف شعري لمدينة النور

أسلوبه صور تتوالى. فهو يرى (الحسد والطمع لابسين أجساماً نارية ذريعة المنظر، وجالسين في ذلك السحاب على مائدة السكر) والسحاب هو الذي رآه الخواجا فرنسيس (على الأفق نارياً كثيفاً ذا لون كأنه من مصبغة الموت، تقشعر منه الأبدان وتزهق الأرواح، ومصنوع من زفرات البشر، وكان الخمر دماء، والأقداح جماجم، وهما يصرخان الخ) ويرى أقواماً (يرضعون الذل من أثداء أمهاتهم وعلى ظهورهم أحمال ثقيلة تحنيهم إلى الأرض، وفي أيديهم حقاق فولاذية مطبوقة على أفكارهم وحريتهم) كما يرى (راية المصائب والأوصاب تخفق على كل هامة، ورياح الآلام والأوجاع تعصف بكل روح. . .)

<<  <  ج:
ص:  >  >>