في مثل هذا الأسبوع من سنة أربع وخمسين وثلاثمائة للهجرة طل في سواد بغداد دم الرجل الطموح.
والبطل الشاعر أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، فهمدت بهموده نفس دائبة الشبوب وعزيمة دائمة الوثوب وهمة رفيعة المصعد! وكان المأمول أن يكون هذا العدد من الرسالة ديواناً لما يلقيه أساتذة الجامعة المصرية من المحاضرات في (أسبوع المتنبي)، ولكن العواصف الهوج التي ثارت بالبلاد فروعت قلوب الناس، وزعزعت سلام الجامعة، حالت من دون هذا الأمل. وأبو الطيب الذي رزق السعادة في شعره، وأوتي النباهة الخالدة في ذكره، لا يزال حظه العاثر لعبة الأيام وألهية القدر! هذا العراق الذي ولد به ودفن فيه قد أعرض بسمعه عن ذكراه، وهو المثل الذي يرتجيه لشبابه، والروح الذي يبتغيه لنهضته! وهذه حلبالتي جعلها نشيدا في فم الزمن، قدقسم الهوى رأيها على ذكراه فجاءت بما لا يتفق مع قدره، ولا يسمو إلى جلاله! وهذه مصر التي كان أول من أخذها بالخضوع الضارع، وعابها بالزهد الوضيع، ونبه عينها الوسنى إلى فساد الحكم قد دفنت ذكراه بين وعد من (رابطة الأدب العربي) عفى عليها النسيان، ونية من الجامعة المصرية ثبطت عنها الحوادث؛ فلم يظفر شاعر القوة وشهيد المجد إلا بحفلتين جديرتين بفضله: حفله قومية أقامها شباب العرب الأبرار في (سان باولو)، وحفلة رسمية سيقيمها رجال الأدب الأخيار في (دمشق)! وسان باولو لم تخلق في دنيا، ودمشق لم تذكر في شعره.
كان أول عهد بالمتنبي أن والدي - بقى الله ثراه - أهدى إلى في يوم من الأيام ديوانه، وكنت لا أزال غلاماً يافعاً قد ارتفع قليلاً عن سن الحداثة، فأنا إقراء القصص، وأحفظ المتون، وأتلقى الدروس الأولية في الأزهر، وأكثر من نظم الشعر في المناسبات المختلفة على معاناً سقيمة وقوالب مشوشة؛ فأراد أبي أن استعين بالنظر في هذا الديوان على تقويم ملكتي وتهذيب طبعي؛ فأقبلت عليه إقبال المنهوم المحروم، لأنه الكتاب الوحيد الذي أملك، والغذاء الشهي الذي احب، والحنان الأبوي الذي أقدس. أقرأه فأدرك موسيقاه بشعوري، وأن كنت لا أدرك معناه بعقلي، وأحس أن شعاعاً سحرياً ينبثق عن سطوره، فيغمر القلب