لم يرو لنا التاريخ أن النبي عرف امرأة أو تحرك قلبه لامرأة قبل خديجة. فلقد كانت حياته حتى الخامسة والعشرين حياة الشاب الهادئ البعيد عن النساء، العاكف على عمله، يرعى الغنم في الفلاة ويلجأ إلى التأمل العميق. فلم يكن للهو والمرأة حتى ذلك الوقت مكان من اهتمامه أو تفكيره. كل ما ورد مع ذلك من أخبار لهو الشباب أنه قال ذات ليلة لفتى من قريش كان معه بأعلى مكة يرعيان غنم أهلها:(أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان). ثم خرج. فلما جاء أدنى دار من دور مكة سمع غناء وصوت دفوف ومزامير، فجلس يلهو بذلك الصوت حتى غلبه النعاس فنام في مكانه ولم يوقظه إلا مس الشمس. فرجع إلى صاحبه فسأله:(ما فعلت؟) فأخبره بما كان. وكان هذا شأنه في كل ليلة من مثل هذه الليالي
كانت العفة المطلقة إذن هي صفته الغالبة؛ وكانت الزهد والحلم والصبر والتواضع ما ميزه عن بقية الشبان، وما جعل قومه يسمونه (الأمين).
ما الذي كان يشغل رأس الشاب محمد في تلك السن مادام اللهو والمرأة لا محل لهما عنده؟ أتراه كان يحس في قرارة نفسه بمصيره العظيم؟ نعم.
ولعل هذه الفكرة تملكت كيانه وطغت على كل شبابه فلم تتسع حياته في ذلك الوقت لشيء آخر.
لقد كان هذا دائماً شأن أغلب أولئك الذين انتظرتهم أقدار عظام، وتملكتهم منذ شبابهم مثل عليا وأحلام، عمرت كل أعوام شبابهم وحلت فيها محل اللهو والمرح.
إن كل شاب يعيش مع شبح امرأة جميلة إلا الشاب الموعود برسالة عظمى فهو يعيش دائماً مع شبح المجد المنتظر.
لعل هذا يفسر لنا بعض الشيء حياة الفتى محمد حتى الوقت الذي لقي فيه أول امرأة أحبها (خديجة). وإنّا لو تأملنا الأمر ملياً لتبين لنا أنه لم يكن البادئ بالحب. كل شيء يدل على أن الزواج لم يخطر له على بال، والزوجة والمرأة آخر ما كان يفكر فيه وقتئذ، فلقد كان يسير في طريق تأملاته الداخلية وأحلامه العليا، وكأنه لا يمشي على هذه الأرض إلى أن