ظهرت في عصرنا دعوى عريضة، يذهب أصحابها إلى إنكار صحة الشعر الجاهلي، وكان من أكبر ما قامت عليه تلك الدعوى أن هذا الشعر على حسب ما روي لنا يخالف سنة النشوء والارتقاء فيظهر أول ما يظهر بالغاً غاية الكمال، لا شئ ينقصه من جهة الوزن، ولا من جهة القافية، ولا من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، ومثل هذا لا يمكن قبوله، لأن سنة النشوء والارتقاء من السنن الطبيعية التي لا يشذ شيء عن حكمها، ويجب إنكار ما يأتي على خلاف مقتضاها
فإذا قيل لهؤلاء الناس أن هذا الشعر الجاهلي كان قبله شعر قديم لم يصل إلينا، وقد مر هذا الشعر القديم في أطوار تدرج فيها على سنة النشوء والارتقاء، حتى وصل إلى هذا الشعر الجاهلي فجرى أمره على تلك السنة أيضا، ولم يكن فيه شذوذ عنها، يتخذ ذريعة الى إنكار صحته، والطعن في نسبته إلى عصره
إذا قيل لهم هذا قالوا أن هذا الشعر القديم حديث خرافة أيضا، لأنه لو صح وجوده لكانت له آثار ولو قليلة في الشعر الجاهلي، ولم ينقطع أثره هكذا مرة واحدة، لأن هذا يخالف سنة النشوء والارتقاء أيضاً، فهي كما تقضي بالتدرج من غير الأصلح إلى الأصلح، تقضي ببقاء آثار قديمة فيما تتدرج اليه، لتكون شاهدة بهذا التدرج، وهي المعروفة في مذهب النشوء والارتقاء باسم الأعضاء الأثرية
ولاشك أن هذا اعتراض له قيمته، لأنه يقوم على شاهد من العلم، فلا يقوم في وجهه إلا شاهد يعتمد على العلم كما يعتمد ويتفق مع ما يقضي به مذهب النشوء والارتقاء من سنة التدرج ولا يكفي في إثبات ذلك الشعر القديم الإشارة إليه في مثل قول امرئ القيس:
عُوجَا على الطَّل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابنِ خذامِ
وقول عنترة:
هل غادرَ الشعراءُ من مُترَدَّمِ ... أم هل عرفتَ الدار بعد توُّهمِ