استقلال اللغة مظهر استقلال الذات؛ ووحدة اللسان جزء من معنى الأمة، واتحاد البيان سبيل إلى توحيد الرأي والهوى والثقافة. فإذا سمعت امرأ يتكلم غير لغته من دون ضرورة، أو يلهج غير لهجته من دون مناسبة، فلا يخامرك شك في أنه كذلك في خليقته وعقيدته ونمط تفكيره وأسلوب عمله. وإذا رأيت أمة تدير في أفواهها ألسنة الأمم، وتستعير في أعمالها دلالات الناس، فلا تتردد في الحكم عليها بالتبعية المدنية والعبودية الأدبية والوجود الملفق. وإذا شق عليك أن ترى في الأرض هذه الأمة، أو تسمع في الأمة ذلك الإنسان، فتحامل على شعورك وجل جولة في إحدى عواصم مصر. فهنا أو هناك تجد في معارض التجارة، ودور الصناعة، وبيوت المال، وأماكن اللهو، خليطا من الناس كجيش الدمستق.
تجَّمع فيه كل لَسْنٍ وأمة ... فما يُفهم الحدَّاثَ إلا التراجم
تدخل متجرا من المتاجر، أو مصرفا من المصارف، أو مقصفا من المقاصف، أو شركة من الشركات، فلا تقرأ في الإعلانات والمستندات إلا كتابة أجنبية، ولا تسمع في المحادثات والمفاوضات إلا لغة أجنبية، فإذا حرصت على أن تتفاهم بالعربية لاعتزازك بها أو لجهلك بغيرها، تضاءلت في رأى مخاطبك فينظر إليك بشطر عينه، ويكلمك ببعض شفته، وربما صغرت وصغرت حتى يستسر عليه مرآك فلا يحفلك. وتغشى قصرا من قصور الأمراء أو دورا من دور الكبراء، فتسمع النادين يتطارحون الحديث بالفرنسية أو التركية، فإذا شاركتهم فيه بلغتك، وقروا آذانهم عن سماعك، لأنك نقلت الحديث الخطير إلى لغة السوقة، وأنزلت البهو الوثير إلى مجلس العامة، وتلقى أبناء (الذوات) في المشارب والملاعب والأندية، فتسمعهم يتراطنون بلغة مشوهة التأليف، مدخولة الوضع، بغيضة اللهجة، من نحو قولهم: يا وداشئ)، ' أطلع ولو وجدت في هذا الخلط تظرفاً من أولئك الأيفاع المدللين الذين نشأتهم المهود الأرستقراطية، وثقفتهم المدارس الأجنبية، فإنك لا تجد فيه غير حمى الروح إذا تكلفه من درج في البيئات الشعبية، وخرج من المعاهد الدينية. فقد حدثوا أن شيخاً من شيوخ اللغة ومعلميها أوفدته وزارة المعارف إلى إنجلترا ليلم بطرائق التعليم ومذاهب التربية؛ فمكث تحت ضباب لندن عاما أو عامين ثم عاد، فإذا لسانه قد