إذا انطوت الفكاهة على صادق حكمة أو نافذ نظرة، وأُودعت العبارة المحكمة اللائقة بها، كانت في الفرد دليل صفاء الذهن ولطافة الحس، وفي الأدب مظهر الرقي والحيوية، وفي الأمة عنوان التحضر ورقة الطبع. والفكاهة عند ذلك لا تقل مكانة عن أرزن الجد، بل ربما بذته وكانت مرآة لميول الفرد والمجتمع أصدق تصويراً من مرآة الجد المحض؛ والأدبان العربي والإنجليزي حافلان بضروب الفكاهة وأوضاعها، يتفقان في بعضها ويفترقان في بعض آخر، تبعاً للأحوال الاجتماعية.
وإذ كانت الفكاهة كما تقدم دليل التحضر ورقة الحاشية قلَّت آثارها في الأدب العربي حين كان أقرب إلى البداوة زمن الجاهلية ومستهل الإسلام. ففي أدب ذلك العهد نرى آثار اللَّسَن وحضور البديهة وقوة العارضة، ونخطئ مظاهر الدعابة الدمثة والعبث الرقيق. وما نحسب إلا أن الرسول (ص) الذي كان يمزح ولا يقول إلا حقاً كان يمتاز من معاصريه - في جملة ما امتاز - بلطف الروح وعذوبة الدعابة، فقد أُثِرَتْ عن صحابته المقربين وخلفائه الراشدين أخبار تنبئ عن متانة الخلق وحرارة الإيمان وقوة الجلد والكفاح، ولم يُؤْثَرْ عن كثير منهم براعة الدعابة ولا الميل إلى الفكاهة.
فلما استوطن العرب الأمصار، واصطنعوا حياة الدعة والاستقرار، وتذوقوا الحضارة والترف، ظهرت نتائج كل ذلك في أدبهم، وكثرت الفكاهة في الشعر والنثر، بل ظهرت طوائف من المجان المتظرفين الذين يصطنعون خفة الروح ويتهكمون بالجد والجادّين من رجال العلم والدين، جاعلين شعارهم قول حدهم ابن هانئ:
دع عنك ما جدوا به وتبطل ... وإذا لقيت أخا الحقيقة فاهزل
ومن أظهر مواضيع الفكاهة في العربية التبرم بالثقلاء، والنيل من البخلاء، ووصف الأكولين والمطفلين، والتهكم بمدّعي العربية من الموالي، وعبث المجان بالمتخشعين المتورعين، والسخرية بالمنهزمين من القواد والمقاتلين؛ وكل هذه أبواب من القول منتزعة من حياة العرب في ذلك العهد، وكلها صفات مضادة لما كان الرجل ذو المروءة الحريص