حاولت أن أتابع البحث (في الجمال) فنبا علىّ الفكر، وشرد عني الخيال، واستبهم أماميَ المسلك. وكيف يستطيع أن يبحث في الجمال من يرى القبح الشنيع قد هجم على المشاعر من وراء البحر، فآذى الأحداق، وسمم الأذواق؛ وشوه كل منظر؟ ومَن أقبح من قادر يختل، ومعاهد ينكث، وصديق يروغ، ومتمدن يعالن الناس بسخف الذمة، وذائد عن الحق يتبجح باهتضام الحق، وغارق في الثراء يتحلب ريقه على كفاف الفقير، وكابوس من الأنس يجثم على صدرك نصف قرن، تريد أن تزحزحه فيثقل، أو تخاطبه فيغبى، أو تغاضبه فيبرد؟
إن في بعض أعمال اللصوص جمالاً إذا نمّت جراءتها على القوة، أو دلت حيلتها على الذكاء؛ ولكن أي جمال في صوت يتحنن بالرياء في (جنيف)، ويتخشن بالعداء في (جلد هول)، ثم لا يختلف في مقامه وقراره عن عواء الذئب في روما؟ أليس هذا وذاك مظهرين وضيعين قبيحين من ضراوة الحيوانية في الإنسان الضعيف؟
على أن من يسطو وفي يده الخنجر، أدنى إلى الرجولة ممن يسطو وفي يده المسبحة؛ لذلك كانت قهقهة (الدوتشي) من تصريح (هور) سخرية أليمة، خنس لها الرياء، وخجل منها الدهاء، وفرت أمامها الحجة!
الحياة جميلة؛ ولكن هذا الإنسان يلونها بلونه فتقبح؛ وقد جاهد المرسلون والمصلحون أن يجلوها على صبغة الله فعجزوا أمام بغيه وجشعة!
ماذا يبتغي الإنسان من الإنسان إذا كان يفسح له في أرضه، ويفضل عليه من رزقه، ويقول له: هواك هواي، ورضاك رضاي، وعدوك عدوي، ولكن لي وطني ولك وطنك، فلينعم كلانا بسلطانه الطبيعي على ما يملك، وليكن بيننا ما بين الحليف والحليف من تعاهد في شرف، وتعاون في استقلال، وتعامل في حرية؟ هذا كلام على بساطته وصراحته ووضوحه ما يزال يعجز الإفهام في أمة تفاخر بالعلم والحكم، وتباهي بالديمقراطية والعدل؛ لأن الأنانية المسلحة إذا عصفت في النفوس غشّت على الحواس فلا تشعر، ورانت على الأذهان فلا تدرك، وأنبهم في الخواطر مفهوم الفضيلة في الإنسان، ومدلول الجمال في الطبيعة، فلا تدرك من معنى البحر غير الأسطول، ولا من دلالة الأرض غير الجيش، ولا