ذلك كان فردريك نيتشه، مجسَّم القوة المفكِّرة التي دارت بها النائبات وحاصرتها الأوجاع وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهبُّ في ذلك العهد في ألمانيا وفي أوربا بأسرها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وتهزُّ المجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام الإنسان غاية لحياته
فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها ناشرة في أوربا مزيجاً من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود والإدارة الحرة، فقال شوبنهور إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها في عقل الإنسان وشعوره فوجم حائراً وفي نفسه ظمأٌ في صحراء لا ماء فيها غيرُ وهج السراب، ولم يجد هذا الفيلسوف من علاج لهذه العلة غير التمرد على الحياة نفسها بترك ملذاتها والالتجاء إلى الزهد وانتظار الفناء في ما يشبه النيرفانا وهي القوة التي تتلاشى كل شخصية فيها
وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات للاحتفاظ بالعقيدة المسيحية بأبحاث لاهوتية ينسجها حول تعاليم عيسى رهطٌ من المفكرين كنويمن وكورليج وكارليل وشلير ماخر وبيالرووجان باينو وشارل سكريتان وإضرابهم فزجَّوا بالإنجيل في مآذق مجادلات ليست منه وليس منها في شيء. وهل خطر لذلك المعلم الإنساني وهو يدعو إلى تطهير النفس ومقاومة الظلم والأخذ بالرحمة وإقامة الإخاء بين بني الإنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح والانعكاسات من الآفاق والانطباعات في السرائر؟ بل هو خطر له أن يبحث علاقته بالله وعلاقته هو وحده أو هو وأبو الخليقة كلها بروح القدس؟
وأخذ نيتشه بهذه التيارات تهبُّ من كل جانب على فكره الوَّقاد تلهمه الآلام وتثير تشوَّقه إلى حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صبره وجهاده
إن الرجل المتمتع بصحة الجسم وبشيء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما تعطيه، فإذا آمن بالله واليوم الآخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحاً إلى ضميره، وإذا أُخذ بفلسفة الجحود رضي بهذه المرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل جهد