اعتبر العلم منذ أول نشوئه منافساً للدين، ثم ما لبث أن تطور التنافس بينهما إلى تخاصم بسبب اختلاف وجهتيهما. سار كل منهما في طريقه عاملاً على هدم منافسه، وتجاوزت المخاصمة بينهما في آخر أدوارها حدود الكلام إلى الأخذ بالنواصي والأقدام، وكان رجال العلم في هذا الدور في أوربا هدفاً لأقسى ضروب الاضطهاد، ولم ينقذهم من الفناه إلا نشوء انقسام ديني خطير كانت نتيجته في القرن السادس عشر حدوث عهد جديد من حرية البحث والتفكير، خطا العلم بعدها خطوات سريعة، وخاصة في القرن التاسع عشر، في سبيل استكشاف مجهولات، وإظهار مخترعات وجهت الأنظار إليه، وجعلت المعول في ترقية الإنسانية عليه.
ظل العلم من الناحية الاعتقادية عدواً للدين، رامياً إلى محو أثره من النفسية البشرية، لاعتباره إياه عاملاً أتقضى زمنه، وبطلت الحاجة إليه، وما ليس إليه حاجة مادية أو أدبية، كان وجوده معطلا الآخذين به من التأدي إلى الكمال المنشود.
ولكن في القرن التاسع عشر نفسه الذي نال العلم فيه أقصى مناه من الدين، ظهرت آراء علمية، قضت بها الضرورة، كان لها اثر فعال في إعادة سلطان الدين إليه، منها الحاجة الملحة إلى افتراض وجود عنصر أولي لطيف إلى أقصى حد، مالئ للكون كله دعوه الأثير، لا يخلو منه حيز في الأرض ولا في السماء، وأنه كان موجودا من أزل الآزال، وسيبقى موجودا ابد الآباد، وأنه أصل المادة منه نشأت وإليه تعود. وغلا الأستاذ (هيكيل) المدرس بجامعة (يينا) من ألمانيا فكتب في كتابه وحدة الوجود (المونيسم) يقول:
(نعم، إن نظرية الأثير إذا أخذت كقاعدة للأيمان يمكنها أن تعطينا شكلا معقولا للدين، وذلك إذا جعلنا إزاء تلك الكتلة الجامدة الثقيلة، وهي المادة، ذلك الأثير الموجود في كل مكان، الذي يمكن اعتباره إلها خالقاً).
ثم أيد رأيه هذا الأستاذ (شليسنجر) الألماني الذي أفضى به في خطبة ألقاها في (التينبورغ) بألمانيا وهو.
(إن أحقر مظهر من مظاهر الطبيعة غير الآلية، وأكبر مجلي من مجالي الحياة الآلية،