وكنت كلما قرأت هذا البيت أعجب كيف لم ينظم قائله شعراً كثيراً في بحث ميول النفس وأحاسيسها وتعليلها وتحليلها، وقد ذكر في بيته هذا أن من شأنه أن يخلو بنفسه يبحث عن نفسه. ومن كان هذا شأنه فَحَص النفس الإنسانية على اختلاف تربتها، وهذا عمل العمر وأكثر من العمر؛ وهو أيضاً لذة متجددة، وإن أدى البحث إلى ما يؤدي إليه بحث قاع الجب أو قاع البحر وما فيه من در ولؤلؤ ومرجان وغابات بحرية وأعشاب وأحياء تقتتل ويفنى بعضها في بعض ووحوش بحرية غريبة مجهولة، وجيف ورمم، وكنوز ثمينة في بقايا السفن الغائرة؛ فهكذا قاع النفس أيضاً لدى من يسبر غورها ويغوص في أعماقها. وسطح النفس أيضاً مثل سطح البحر، لج وخرير، وشمس تتلألأ أشعتها، ونسيم عليل، ومنظر بهيج هادئ، أو عواصف وأعاصير، ومرأى رائع جليل. وإذا كانت بعض مظاهر النفس تبعث الرهبة، فان بعض بواطنها أدعى إلى الرهبة، ولكن من الرهبة ما يستصحب المسرة، كالرهبة التي يحسها المرء وهو يستطلع الأمر الغريب الرائع المخوف المجهول؛ ومن أجل ما تستصحب من المسرة نشأ حب الاستطلاع لما يستدعي المخاطرة من مستطلعه
ولعل ابن خفاجة في بحثه النفس كان ينظر إليها نظرة المستريح في ظل الشجرة يفكر فيما حوله وكأنه لا يفكر، فان في مثل حالة هذا المستريح تفكيراً كلا تفكير، وبحثاً كلا بحث، فهو تفكير يقنع فيه المرفه نفسه بالنظر إلى المرئيات وألوانها وأجزائها من غير أن يعني نفسه بالبحث عن سرها خشية أن تضيع لذة الراحة والدعة؛ فشأنه شأن المسحور لا حراك له، وفكره أيضاً لا حراك له، ويخيل إليه في مثل هذه الحال كأن الدهر قد أوقف دورته واستراح، وكأنما يخشى أن يفك عنه الحراك سحر التأمل ولذته المطلقة التي لا تتقيد بتقصي الأسرار والمسببات، ولا هي مثل لذة المخاطر الذي يرى في مشقة استطلاع الغريب المخوف مسرة كما أوضحنا