على أن من الميسور أن ندرك ابن خفاجة في حالة أخرى من حالات بحث النفس، وهى الحالة التي يغوص المفكر على العويص الغائر من أسرارها، ويحس لذة في غوصه تملأ جوانب نفسه حتى تشغله عن لذة التعبير عما يراه في بحثه تعبيراً فنياً، فأني لا أحسب ابن خفاجة رأى أن تتبع حركات النفس وخطراتها وأحاسيسها في شعره غير لائق بشعره إذ أي شئ ألصق بالقريض من النفس وأحوالها وميولها وخطراتها، فالشعر هو لغة النفس وموسيقاها، ومقر كنوزها وحكمتها وأسرارها
ولكن للبحث في النفس مسرات مختلفة، قد تفترق وقد يتصل بعضها وينال في وقت واحد، فمسرة فيما يجلبه التعبير الفني عن أحاسيس النفس من ارتياح الفنان الصانع في صنعه، ومسرة أخرى فيما تجلبه مشاهدة أطوار النفس والتأمل في أحوالها من الارتياح كارتياح مشاهد القصة التمثيلية في تتبع روعة فن القصة كما يبرزه الممثل
وهذا الارتياح غير ارتياح المسحور المأخوذ بما يره من المنظر الطبيعي أو الصورة الفنية النادرة، وارتياح المسحور هذا هو أيضاً مسرة أخرى في التأمل في النفس البشرية
ولكل مسرة من هذه المسرات الثلاث قيمة في الحياة، وكل منها تعين المرء على تحمل متاعب الحياة وآلامها، بل إنها لتعين اليائس بما فيها من لذة فن البحث والتقصي على تحمل ما يحس من يأس من النفس البشرية إذا لم يستطع غير اليأس منها. وكل إنسان له نصيب من هذه المسرات الثلاث، فكل فنان، وكل إنسان يعبر عما يراه في أعماق النفس تعبيراً فنياً، إما في ثنايا ما يسلي به نفسه في خلوته من الأغاني والأناشيد، وإما فيما يفوه به من الأمثال العامية أو غير العامية، وإما في آهاته وأناته وأمانيه، وإما في ثنايا قصصه ونكاته وفكاهاته، وفي مجالسه ومباذله، وفيما يقول في سخطه وحزنه وسروره، أو في نثره وشعره إن كان ناثراً أو شاعراً، أو في أدوات الفنون الأخرى من نحت أو تصوير أو موسيقى
وكما أن كل إنسان ينال نصيباً من لذة الفنان المعبر عن النفس تعبيراً فنياً، فكل إنسان ينال أيضاً نصيباً من مسرة المشاهد لقصة الحياة والنفس التي تمثل أمامه، وكل نفس تحاول أن تحول كل ما يمر بها من الحوادث إلى قصة وفن وإن لم يفطن أكثر الناس إلى هذه المحاولة في أنفسهم. وكلما اضطر الإنسان إلى الخروج عن نشوة المتأمل المشاهد لفن