للسياسة لغة تختلف كل الاختلاف عما تواضع عليه الناس. إذ من المهارة السياسية أن تصل إلى أغراضك ولو من طريق ملتو. وقديماً قيل: الغاية تبرر الوسيلة. وأنه ما دام للمائدة آداب وللحفلات آداب، وللزيارات آداب. . . فلماذا لا يكون للسياسة آداب كذلك؟ ومن مظاهر السياسة أن تكون لغتها من الرقة والسمو بمكان، بحيث لا تشعر المتحدث إليه بالرغبة في السيطرة عليه أو استغلاله. فلغة (الأمر) قد تسمى بلغة (النصح). وبداهة أن النصيحة لا تقيد المنصوح له برأي الناصح ولا تلزمه الأخذ به؛ فله كامل الحرية إن شاء أخذ وإن شاء يذر؛ ولكن لها عند بعض الساسة معنى آخر. فإذا تفضل عليك ناصح بالا يطرح مشروع كذا ي مناقصة ورأيت أنت أن الخير لك ولوطنك في غير عتب عليك في عدم الأخذ بمشورته عتاباً قد يكون مراً، وقد يبلغ درجة اللوم والإحراج والتوعد، وإذا نصحك بكذا وكيت لهوى قد يكون في نفسه ولم تتابعه في رأيه تململ واستاء، لأن (النصح) على لسانه نصح من (نوع خاص).
ولقد يتطوع لزيارتك زائر كريم، ويتحدث إليك في أمور يكثر الجدل فيها، وتتناقلها الألسن، ثم يبدى لك في أدب جم بأن (من رأيه) أو (من رأي حكومته) أن تحل العقدة بكذا وكذا، ثم يتركك وقد فهم كل منكما ما انطوت عليه سريرة الآخر، وهو في سعيه مشكور شكر الناصح المخلص. وإذا المشروع يطوي، والجو يصفو، والنفوس تهدأ، ويعود الأمر كما بدأ، وتصفق الأيدي للحل السعيد.
وقد يكفي مجرد (إظهار الضجر وعدم الرضا) لإيقاف المتحرك وتحريك الساكن. فإذا لم يُظهر بعض الدوائر المالية ارتياحا إلى أن تكون اللغة العربية هي لغة وطنها؛ وإذا ارتأت دور الخيالة في استخدام هذه اللغة فيما تعرض من أشرطة حرجا عليها فمعناه بلغة السياسة: قنوعاً بما رضي الدخيل بمنحك إياه، وشكراً له على تفضله.
(والمركز الممتاز) في عرف الساسة الطالبين له هو صنيع يؤدي إلى من يطلب منه منحه: وكيف لا والدافع إليه شدة الحدب على المهيض الجناح، والحرص على المحافظة عليه؛ فالجيش الدخيل الذي يحتل أرضه ليس له من مأرب إلا رد المعتدين عنه، والثقافة التي