تخطفت المنايا السود فلذات الرسول بنات بعد بنين، فلم يبق إلا فاطمة قرة لعينه وعزاء لنفسه. وكانت جراحات القلب العظيم لا تجد لمسها الممض فراغاً بين آلام الرسالة فتندمل في سكون وصمت. فلما عنتْ سُورة الشرك في مكة، وعلت كلمة الله في الجزيرة، وتحققت وحدة العرب في الوجود، وأخذت نفحات السلام الإلهي تنضح الجو المشتعل بالنار، وتطهر الثرى المخضوب بالدم، تنبهت في الإنسان الأعلى مشاعر الطبيعة، وتجددت في العربي الرسول عواطف الأبوة، وحزّ في نفس محمد أن يرى أمهات المؤمنين يعقمن عشرة أعوام متتابعة، فبيوتهن التسعة حول المسجد المهلل الذاكر غرقى في السكون الرهيب والصمت الموحش، لا يؤنس حجراتها غناء المهد، ولا يبهج أفنيتها مرح الطفولة
لا ريب أن أسرة محمد الرسول شملت جزيرة العرب كلها، وستشمل عالم الإسلام أجمع؛ ولكن أسرة محمد الرجل لا تزال ألماً من آلام العبقرية، ومحنة من محن البطولة. تدرع باسم الله وبرز وحده لشياطين الأرض، فجاهد الوثنية حتى أقر الحق، وعالج الإنسانية حتى أعلن الخير، وشذب الطبيعة حتى أنمى الجمال، وبلغ الرسالة حتى لم يبق لرضى الله غاية لم تدرك، ولا لصلاح الناس سبيل لم تشترع. ولكنه هدف للستين في جهاد الشرك والجهل والهوى، ولا يزال يجد في جوانب نفسه الكبيرة عاطفة لم تُرضَ، وحاجة لم تُقض، ورسالة لم تتم! تلك هي عاطفة القلب للولد، وحاجة النفس إلى التجدد، ورسالة الحياة إلى الحياة
بين ظلال النخل والكرْم، وفي بيت المصري على العالية من ضواحي المدينة، أتم الله نعمته على رسوله فوهب له على الكبر إبراهيم! يومئذ تنفس الصبح بأنفاس الفردوس، وضاحكت الشمس خمائل يثرب من خلال الأجنحة النيرة، ومست يد الربيع المخصبة دوحة النبوة، وغرقت نفوس المؤمنين في مثل صفاء الخلد، وأقبل المهاجرون والأنصار على المسجد المستبشر يهنئون النبي بالخليفة الوليد والأمل الجديد والعوض المبارك؛ ونهض الرسول الوالد إلى بيت مارية القبطية ليرى نعمة ربه، وبضعة كبده، فوجد في