من يجتز ميدان المغربي بتل أبيب، وهو يشبه في الظاهر ميدان سنت ميشيل بباريس، ير في طرفه الأيسر مقهى صغيرا، جميل الهندسة، حسن الترتيب. فاخر الأثاث، يؤمه عادة أهل الفن والأدب من يهود تل أبيب، كما يتردد إليه عدد لا يستهان به من المهاجرين والمهاجرات، يتعارف بعضهم إلى بعض ويتبادلون الآراء ويحتسون الجعة على أنغام الموسيقى المهدهدة.
ولا يجوز قط اعتبار هذا المقهى مكاناً لترفه اليهود فقط، فمن رواده الدائميين أيضاً بطل قصتنا هذه (عزيز). وهو شاب تجاوز الثلاثين، فلم يدع بابا في الحياة إلا طرقه، ولم يترك حرفة في المجتمع إلا مارسها، وهو في طبعه محب للمغامرات له شذوذه، كما أنه يتذوق الأدب، ويبدي أراء جريئة في السيكولوجي، ويجيد الإنكليزية، ويتكلم العربية قليلا. . .
وفي إحدى الأمسيات جاء (عزيز) المقهى وبصحبته صديق مزارع من شمال فلسطين، أنعم الله عليه بالثراء وسعة العيش، وحرمه العلم وسعة المدارك، وجلسا إلى مائدة، وكانت ملامحهما تدلان على أنهما من مهاجري بلغاريا أو رومانيا، فلم يكترث بهما أحد، في حين أنهما كانا يبديان اهتماما زائدا بجلاس المقهى، ويخصان الغانيات الفاتنات من بنات يهوذا بنظرات كلها عطف وشوق. . .
وإذ كانا يتناولان الكأس الرابعة من الويسكي في جو اختلطت فيه ضجة الحاضرين بلحن (الفولغا) لمحا من خلال الدخان الكثيف امرأة ممشوقة القد، شقراء الشعر، زرقاء العينين، ترتدي معطفا قوزاقيا، تلج المقهى وهي تتهادى في مشيتها. فما إن وقفت عند بنك الساقي حتى انتصب (عزيز) واقفا، وتقدم نحوها بأدب مخمور وقال:
- أتأذن لي مولاتي بكلمة؟
- تفضل. . .
- مولاتي، لا ريب في أنك من أهل القوزاق. . . إني لأرى تموجات نهر الفولغا تتلاقى مع تموجات شعرك الذهبي، أنت لحن الفولغا الحي. . . أنت أنشودة نظمتها الحياة. . .