وفي اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب في تصويره واجب الإنسان نحو الحياة، الدنيا لأن العلماء الماديين من جهة اعتبروا الحياة زائلة فما اهتموا لرقيّ الإنسان الأدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيلائه التنعم الأوفر بالجهد الأقل، ولأن المفكرين المؤمنين، من جهة أخرى، ما كان بوسعهم أن يفكروا للأرض ويحصروا كل جهد فيها كأنها دارُ قرارٍ لأن العمل للأرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف إيمانهم، أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السماء، وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه الأرض كما يقول جاعلاً هذا التراب وطنَ الإنسان الدائم، لم يسعه إلا توجيه كل قواه لتصوّر لإنسانية تتمتع كل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من الرقي مرتبة الألوهية
تلك حقائق لم تفت ثلاثة من أعلام الشرق العربي أهابوا بنا إلى ترجمة زرادشت ونشره في هذه البلاد لتسديد عزم الشبيبة في هذه المرحلة التي يتوقف على نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا. أولئك الثلاثة هم المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الشرق والعروبة والإسلام، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دويٌّ في أوساط المفكرين، والأستاذ أحمد حسن الزيات القابض على آداب الغرب باطلاعه وتفكيره والرافع عَلَمَ الآداب الشرقية بقلمه، وقد تفضل الأستاذ المشار إليه فنشر في مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب في مدى سنة، ولولا تقديرنا أن الزمان سيطول على نشره برّمته لما كنا بادرنا إلى طبعه كاملاً مستقلاً
إن ما دعانا وأصحابنا المشار إليهم إلى تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا إلى فلسفته من الوجهة الملامسة للمبادئ الدينية الاجتماعية التي نتجه إلى أحياء حضارتنا القديمة على أساسها، وقد رأينا أن هذا المؤلف الفريد في نوعه ليس من الكتب التي تنقل إلى بياننا لما لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب، بل هو من الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طلاب الجامعات في كل قطر أوربي، فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثير الأكبر في