إنني إذا تحدثت عن الخريطة الإدريسية فإنما أتحدث عن مجهود علمي خالد من مجهودات أحد أسلافنا الأمجاد، عن مبرة من مبرات رجل من رجالاتنا في التاريخ، ويدمن الأيادي البيضاء التي أسداها أحد علماء الإسلام وأبناء العرب إلى العلم والعالم يوم كانوا قادة المعرفة وحملة لوائها على وجه البسيطة، ويوم كان الشرق يملي كلمته على الغرب ويقوده إلى مسالك الحياة الحق على ضوء العلم، وفي سبيل الهدى والمعرفة. أتحدث عن اقدم خريطة عالمية جغرافية صادقة عرفها التاريخ ووصلت إلى أيدينا، وأقرب صورة عرفت في تلك العصور السالفة مطابقة لما وصل إليه العلم الحديث ولما نعلمه الآن علم اليقين، تلك هي (خريطة الشريف الإدريسي) التي أظهر في وضعها براعة علمية فائقة، وخلد لنفسه بها ذكرا طيبا حسنا بين العلماء الأمجاد سوف لا يزال يضوع شذاه وينتشر عبيره ما دام للعلم أهل يقدرونه، وما دام هناك من يعرف للعلماء حقوقهم.
ولم يكن كتابة (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) إلا شرحا لهذه الخريطة وتعليقا عليها، وهو كتاب ضخم يقع في جزئين كبيري الحجم، وإن كثيرا من علماء البحث في الشرق والغرب وفي مختلف العصور، قد بحثوا بحوثا مستفيضة في هذا الموضوع الشائق، ولقد كان آخر من عنى بذلك من علماء البحث الجديد الأستاذ (كونراد ميللر) أحد العلماء الألمان الإجلاء فانه أخرج الخريطة في ثوب قشيب، وطبعها طبعة ملونة سنة ١٩٢٨ وكتب عنها الفصول الطوال، وعقد الموازنات بينها وبين الخرائط الجغرافية القديمة والحديثة، وأشاد بمنزلتها كأساس قوي متين، ومرجع منظور إليه بعين التجلة والاحترام من مراجع هذا العلم وأسسه.