للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

من أيام الصبا

للأستاذ محمود البدوي

كنا خمسة. . . خمسة من الشبان المتمردين على الجماعة والخارجين على حدود الناس، والذاهبين مع مرح الشباب ولهوه. . . كنا قد انقطعنا عن المدرسة، وتخلفنا عن الرفاق، وسرنا مع نزق الشباب وطيشه، فطردنا من الأهل وحرمنا من الصحب، وتقطعت بنا الأسباب. . . وذهبنا على وجوهنا نبغي العيش من التصعلك والتشرد وركوب متن الأهواء. . . ثم ارتددنا على أعقابنا، وضمتنا القرية الحبيبة بعد طول شتات. . . فانطلقنا نعمل في الحقول ونشرف على حراسة المزارع. . .

وكانت الأيام المشردة قد مسحت ما على أجسامنا من غضارة المدينة ولينها، فالتفت سواعدنا واشتد عودنا، وأصبحنا أقوى ساعداً وأعظم قوة من هؤلاء الريفيين الذين يقضون حياتهم بين أحضان الطبيعة، ناعمين بالحياة الحرة، في الهواء الطلق، والجو المشمس. . .

كنا جالسين في حقل من حقول المزرعة وحولنا الأجران، والليل ضارب بجرانه والصمت رهيب. . . وكنا قد تأخرنا عن زمن الحصاد، فحرمنا بذلك من أمتع (أيام الصبا) ولهوه. . .

كنا نقف وراء صفوف الحاصدين ونرقب هذه السواعد القوية وهي تطوي سنابل القمح طياً، وخلفنا الفتيان الأشداء يكومون الأحمال وينيخون الإبل، ونساء الفلاحين يلتقطن السنبل الساقط، ويجمعن قوت الأيام السود. . . وكنا نزجر العجائز الدميمات منهن، وندع الصبايا الجميلات يتوغلن حتى الحقول. . . كانت أسواطنا تخطئ دائماً. . . ومع ذلك، فما قطعنا القلوب حسرات، ولا ندمنا على ما فرط منا من إثم. . . كنا ذاهبين مع الصبا بقلوب نزقة، لا نحسب لأوضاع الناس حسابا. نتخذ من عطلة الصيف وأيام الحصاد مرتعاً خصباً لشبابنا الجامح وعواطفنا الجائشة. . . ونظل النهار بطوله واقفين في قلب المزرعة تحت لفح الشمس، لا نكل ولا نمل، لأننا نرى في كل ساعة وجهاً فاتناً صبوحاً من تلك الوجوه القروية النضرة التي تستغرق الطرف، وإن كانت تعيش في ظلام الفقر وبؤسه. . .

فإذا أقبل العشى انطلقنا وراء الإبل المحملة بالقمح، وخلفها الجمالون يحدونها بأصواتهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>