(وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي، ألا انه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح).
هذه الفكرة مسيطرة عليه في كل الكتاب. هو مؤمن بها إيماناً عميقاً جاء من تنزيهه الله عن العبث واللهو، وهو أصل يقرره في اللزوميات كثيراً:
أرى فلكاً ما زال بالخلق دائراً ... له خَبرٌ عنا يُصانُ ويُخبأُ
وهو يبحث عنها بوسيلته هذه فلا يهتدي إليها، فكل ما كان للمعري من اضطراب أو حدة فإنما منشؤه هذه الحكمة المعماة عليه. هو يقرر بأن الله (يقدر أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبيه، ويمشي إلى الغرض على هامته. . .) ثم هو يعترف بان (. . . ذلك في القدرة يسير) ولكنه يتساءل عن حكمة الله في هذا النظام، وهذا النوع من الخلق، ولم كان هذا ولم يكن ذاك؟ وهو يرى أن (مؤتي الملك ملكه قاصر الصعلوك على عدمه، وكاسي الجميل حلة الجمال، هو سالبها القبيح. . .، فبيد الله العطية والحرمان) وهو يرى (أن الفقير خص بالتوقير) ولكنه لا يدري لماذا فيقول: (والله العالم لم ذاك). فهو يتساءل على أي نظام كانت هذه العطية وذاك الحرمان، وعلى أي اعتبار خص الفقير بالعبء الثقيل، ما سبب هذا التفريق في المنزلة والرزق (والناس بنور رجل وامرأة) وينتهي إلى تلك الحال من استسلام الحائر: (ومن عند الله قسمت الحدود).
تواق لمعرفة هذه الحكمة المعماة عليه، يطلبها ويجد في الحصول عليها، فإذا ما ظن انه قد أوشك أخلفت ظنونه الحكمة الإلهية وخذلت عقله. وليس أدل على حاله تلك من وصفه نفسه: (إنما أنا كرجل بلي بالصدى، لا يجد ورداً ولا مورداً، فهو ظمآن أبداً، أن ورد