للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المعذبون]

للأستاذ علي محمد سرطاوي

ليس العذاب في الحياة أن تجوع مرة وتظمأ أخرى، وأن تعرى حيناً وتتشرد أحياناً، وأن تنظر حولك في مسالك الحياة فلا ترى إلا الفراغ الهائل والوحشة في فترات الضيق، وأن تفتش عن الصديق الوفي فلا تجده في ساعات الشدة. . .

وإنما العذاب كل العذاب؛ في أن تجوع فلا تجد الرغيف، وأن تعرى فلا تجد الثياب، وأن تتشرد فلا تجد الوطن الذي يتحرك قلبه شفقة عليك لأنك جزء منه، وأن تتلفت حولك في مطارح الغربة فلا تجد القلب الرحيم الذي تطل من حنانه عليك رحمة الله، ولا اليد الكريمة التي تحمل البلسم لتدمل به جراحات القدر في حياتك، وأن تمد بصرك إلى آفاق الأمل فيرتد إليك الطرف خاسئاً حسيراً وقد تمشت في أوصالك قشعريرة الموت لأنك لم تعد تبصر شيئا.

وفصائل الحيوان أكثر حنواً على أنواعها، وأكثر تواصلا من بني الإنسان من مسارب الوجود؛ فالحيوان لا يستأثر بالغذاء من دون أفراد جنسه، ولا يفتك بغيره إلا إذا عضه الجوع، الخسف، ولا يسفك الدماء كما يصنع الإنسان حباً في الاستعلاء الحقير.

والشعور الكاذب الذي تصطنعه الأجناس البشرية نحو بعضها البعض ونحو الأجناس الأخرى ليس في حقيقته إلا لونا من ألوان الرياء الاجتماعي والنفاق الرخيص. قد أظهرت فترات المحن التي نمر بالحياة على أنه كذلك، وعلى أنه كسحابة الصيف لا يلبث أن يزول سريعا متى ذهبت الأسباب غير الإنسانية التي تدفع إليه.

جلس الفتى المشرد عن وطنه في تلك الغرفة الضيقة التي كانت نصيبه فيه في نهاية المطاف وقد حشرت معه فيها تلك الأسرة البائسة المضيافة التي لا تذكر أن الدهر ابتسم في وجهها مرة، أو طاف بها طائف من سرور في حياتها.

جلس ذلك الفتى أو ذلك الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة، وقد سجى الليل وهجعت العيون، وراحت النسائم الرطبة تهب من مياه البحر على المدينة الحالمة المتشحة بأردية النور فتلطف الحرارة.

ومد طرفه في نور السراج الضئيل فرأى بسمات الفرح تعلو ثغور الأطفال الثلاثة الذين

<<  <  ج:
ص:  >  >>