كل منا يسعى إلى استكناه أسرار الوجود، وكشف الستر عن خباياه، تتتابع على مشهد منه ظواهر الطبيعة، وتتوالى إمام ناظريه مواكب الأحياء وتتري تحت سمعه وبصره أحداث الإنسان: فيعمل الفكر بغية اكتشاف أسباب هذه الأمور، والبواعث التي تحدثها وتسيرها والغايات التي تتجه إليها والحكمة الكامنة وراءها. وجملة القول أن الإنسان يحاول تفسير ما يبصر وما يسمع وما يعي، وتختلف تفسيراته تبعا لتقدمه الفكري ومرتبته من التطور العقلي.
من أجل ذلك اختلفت تفسيرات الطفل عن تفسيرات الراشد المكتمل، وتفسيرات المجنون عن تفسيرات العاقل المتزن، وتفسيرات البدائي عن تفسيرات المتمدن المتحضر. اتفق الجميع على أمر واحد: هو البحث عن الحقيقة ما امتدت بهم أسباب الحياة، ولكنهم يسلكون سبلا ثلاثا أقصرها وأسلمها سبيل العلم، وأرحبها طريق الفلسفة وأدناها وأكثرها التواءودورانا حول الحقيقة طريق التفكير الخرافي.
وقد حدثت القراء في مقال سابق عن التفكير الخرافي في حياة الفرد، وانتهيت معه إلى أنه برغم بعده عن الحقيقة الموضوعية وانحرافه عن القصد في محاولة بلوغ الواقع، يعد وثبة أولى في طريق العلم والعرفان، ومحاولة ساذجة لكشف أسرار الوجود ومرحلة لازمة في التطور الفكري لا بد مسلمة إلى ما هو أرقى: إلى الفلسفة والعلم.
والبشرية في تطورها الفكري كالفرد في تطوره الفكري. لم تكشف عن قوانين الجاذبية، ومدار الأفلاك، والقوة الكهربائية، والطاقة الذرية، إلا بعد جهاد عنيف، وكفاح فكري شاق دام آمادا طوالا، ومحاولات مضنية كان أولها التفكير الخرافي الذي يسم العقل البشري في طفولته. فالتراث الفكري الذي خلفته أجيال البشر يبين أن أول مرحلة من مراحل التفكير كانت مرحلة دينية صرفة يمتزج فيها التفكير بالخيال.
ونحن نعلم أن الفكر الإنساني بزغ أول ما بزغ في الشرق القديم: عند المصريين والفرس والآشوريين والبابليين والهنود والصينيين. ونظرة عامة إلى ما خلف هؤلاء من محاولات