منذ أكثر من قرنين يتناوب الحكم في بريطانيا العظمى حزبان عظيمان هما المحافظين وحزب الأحرار؛ ولكل من الحزبين في ميدان الكفاح السياسي مواقف وتقاليد عريقة؛ ولكن حزباً ثالثاً ظهر فجأة في ميدان السياسة الإنكليزية هو حزب العمال؛ وكان ظهوره إيذاناً بوقوع الثورة الاجتماعية التي لبثت أسبابها تجتمع طوال القرن التاسع عشر؛ وظهر حزب العمال ونما بسرعة مدهشة، ولم يمض على قيامه نحو ثلاثين عاماً حتى استطاع أن ينتزع مقاليد الحكم من الحزبين القديمين الكبيرين (سنة ١٩٤٢)، ثم تولاها مرة أخرى في سنة ١٩٢٩
وقد كان كير هاردي من أقطاب مؤسسي هذا الحزب الجديد ومن أعظم الزعماء الذين أمدوه بأسباب الحياة والقوة؛ وحياة هذا الزعيم المجاهد هي موضوع مؤلف جديد صدر أخيراً بالإنكليزية بقلم هاملتون فايف، وهي مثل رائع من صور الكفاح الخالد بين الطبقات. كان كير هاردي عاملاً منذ نعومة أظفاره، وقد نشأ في بيت فقر وبؤس، وذاق مرارة الكفاح الشاق منذ طفولته، ولم يتلق تعليماً ولا ثقافة، ولكنه تعلم القراءة في منزله، وصقل ذهنه بالدرس المتواضع، ودرس الحياة بصورة عملية، وظهر في مجتمع العمال منذ حداثته، واشتهر بكفاحه في سبيل قضية العمال. وفي سنة ١٨٩٢ أسس كير هاردي مع نفر من صحبه الحزب الذي قدر له أن يتبوأ بعد قليل مركزاً خطيراً في السياسة البريطانية وهو حزب العمال المستقل؛ وكان هو أول رئيس لهذا الحزب؛ وفي نفس العام دخل البرلمان نائباً عن إحدى المناطق الصناعية، وكان دخوله في هذا المجلس العريق في مظاهرة اشتهر ذكرها في هذا العصر؛ ولبث كيري هاردي يسهر على مصاير حزبه وعلى مصاير قضية العمال، ويبث روح الكفاح والقوة في الحزب الجديد، تارة بقلمه وتارة بخطبه، حتى أصبح حزب العمال قوة يخشى بأسها. وفي سنة ١٩٠٦ كان لحزب العمال في مجلس النواب زهاء ثلاثين مقعداً؛ وبدأ الكفاح الحقيقي بينه وبين الأحرار والمحافظين، وبدأت الحكومات البريطانية المتعاقبة تحسب حسابه، وتنزل عند مض رغباته، وما زال سائرا في طريق الكفاح الاجتماعي حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من القوة والنفوذ.