من أهم ما تتفاوت به منازل الشعراء، وتتمايز درجاتهم في الشعر، وتتفاضل به أذواقهم الفنية في أداء المعنى وبلوغ الغرض، ويختبر به مدى ثقافاتهم البيانية، ويعرف منه مقدار مطالعاتهم الأدبية، ونفوذ كل منهم إلى حر الكلام وخالصه، وارتوائه من صفو البيان وصريحه، وحفظه لأحسن ما قرأ، وحسن استعماله أحسن ما حفظ من الكلمات والعبارات، هو ذلك الثوب البياني الذي يلبسه الشعراء معانيهم، وتلك الصورة اللفظية التي يبرزون فيها أغراضهم، فبحسب ما يكون ذلك الثوب مقدرا على المعنى، محيطا بأطرافه، مقيسا على أجزائه، وتكون تلك الصورة اللفظية مظهرة للغرض، مبرزة لخفايا المعنى، مصورة لدقائق الفكرة، وما يودعه الشاعر بفنه في تلك الصورة من الحياة والسحر، وما يترقرق في الكلمات والعبارات من ماء الجمال، ورونق الحسن، وطلاوة المنطق، أقول: بحسب ذلك كله يكون أثر الشاعر في القلوب، وسلطان شعره على قرائه، ومنزلته في الفن بين نظرائه. وليس المراد بتحسين الألفاظ وتجميل العبارات هو مجرد جريانها على قواعد اللغة، وموافقتها لنصوص المعجمات، فليس كل ما تبيحه اللغة وقواعدها يباح في الشعر استعماله، ويسوغ للشعراء التعبير به، إذ الشاعر إنما يقصد في شعره إلى الروعة والجمال وعدم الابتذال أكثر من قصده إلى مجرد جواز الاستعمال. وقد سبق أن أوضحت ذلك في بعض الفصول التي كتبتها من زمن بعيد فقلت ما نصه: إنه مما لا ينازع فيه ذو ذوق أدبي دقيق أن للشعر لغة خاصة يتميز بها عن غيره، إذا فقدها لا يسمى شعرا بل يسمى كلاما عروضيا، أي أنه يشبه الشعر في وزنه وقافيته، دون ألفاظه ولغته، كما أن لكل من الكتابة والخطابة ألفاظا خاصة يتميز بها كل منهما عن صاحبه، ويتميزان بها عن الشعر؛ والفروق الدقيقة بين ألفاظ هذه الصناعات الثلاث وعباراتها لا يدركها إلا من له ذوق صحيح وملكة فنية في إحدى هذه الصناعات أو في جميعها. وقد كان بعض النقاد في العصور الأولى يسمع الشعر الجيد فيفطن بجودة حسه إلى ما فيه من ألفاظ غير شعرية، فيحكم بأنه شعر شاعر أو شعر كاتب؛ وكتب الأدب ملأى بهذه الطرائف. وقد فطن علماء الأدب المتقدمون