للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين يومي الهجرة والفتح]

حمامتان تتناجيان

للأستاذ محمود غنيم

قالت الأولى: هلمي يا أختاه نغادر سطح هذا الغار - غار ثور - قبل أن يدركنا هذا الجيش اللهام، فيغطينا العثير الذي تثيره سنابك خيله. يا لله! إنه ليحث الخطى نحو قومنا - قريش - ولا قبل لقومنا به، عشرة آلاف أو يزيدون - إن صدق حدسي - مع كل منهم سيفه القاطع ودرعه المنيعة، ويقين أقطع من سيفه وأمنع من درعه. يا لله لقريش! من أين أقبل هذا الجيش؟

قالت الثانية: لقد جاء القوم عن طريق يثرب، لكني لا أخالهم جميعا يثربيين. انظري، هذه خيل من سليم، وهذه من مزينة، وهذه من غطفان، هم أمشاج أخلاط، من كل فج وعلى كل لون؛ ولكن شيئا لا أكاد أتبينه، تبدو أنواره على أساريرهم، ويشع بريقه من عيونهم - يؤلف بينهم، ويجعل منهم كتلة واحدة كأنهم بنيان مرصوص

بيد أن شعورا داخليا في نفسي يجعلني لا أرهب هذا الجيش، هذا الجيش، حتى لأكاد أقف على ذباب سيوفهم وفوق شبا رماحهم آمنة مطمئنة، كأنني فوق منبر الحرم، أو على حافة مقام إبراهيم. انظري معي، أنعمي النظر، ألا ترين تلك الكتيبة الخضراء التي تتوسط الجيش؟ ألا ترين هذا الرجل الذي يتوسط تلك الكتيبة الخضراء، يومئ للقوم فيسيرون، ويقفهم فيقفون؟ إن لي عهدا بهذا الرجل - إن لم تخني الذاكرة - آه! تذكرت يا أختاه، أليس هذا صاحبنا بالأمس الذي استضفناه في هذا الغار ثلاثة أيام منذ عشرة أعوام؟ إنه محمد، محمد، محمد، ألا تذكرين؟

قالت الأولى: تذكرت كل شيء، حتى لكأن هجرته بنت الصباح، وكأن مكانه في الغار لا يزال حارا، وكأن جرس صوته يرن في أذني وهو يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا) ألم أحدثك يومئذ أن لهذا الرجل شأنا؟ ما الذي أوحي إلينا يومئذ أن نحكم تدبير تلك المؤامرة التي اشتركنا فيها لتضليل القوم وإخفاء محمد عن عيونهم؟ يوم عششنا بفم الغار، وما كان فم الغار لنا بعش، ونسجت العنكبوت خيوطها على بابه، وما كان لها به عهد، وأرسلت الشجرة الجرداء ذوائبها فاعترضت الطريق إليه. لقد تضافرنا على تضليل القوم

<<  <  ج:
ص:  >  >>