الليل مهودَّ وسننْان، ترى العين سكونه، ويُحس القلب سكينته؛ ونسيم السَّحر يسري رفيقاً ينفح الخليقة لا أدري أيبغي إيقاظها أم إنامتها؛ والقمر ينضح الكون بأشعته يخفق مع النسيم نوره؛ وقد أصحت السماء إلا قَزعاً في الأرجاء؛ وتبدو في سكون الليل ونور القمر قمم الجبال: غندمة وأبي قبيس وأجياد.
استغرقت الخليقة في أحلامها الجميلة، وشُغل الليل بشعره البليغ، ففيه إصاخة الشاعر للمعنى الجميل المخترع.
ولكن طرق مكة لا تنام، ولا تفتر عنها الأقدام، فأنظر في ضوء القمر، وفي ظلال الدور، زرافات متمهلة أو مسرعة، ذاكرة أو صامتة، تؤم البيت الحرام.
الليل هاجع، والخليقة نائمة، ولكن هذه القلوب الوالهة لا تهجع؛ ولكن هذه العيون الباكية لا تغمض، ولكن هذه الزفرات المردّدة لا تسكن، ولكن هذه الألسنة الذاكرة لاتفتر. قد استوى ليلها ونهارها، وعشيها وإبكارها.
هذا هو المسجد الحرام! فهل تقع العين إلا على مُصَلٍ خاشع، وطائف بالكعبة واله، وقارئ تنطق بضراعته الآيات، وداع يرسل قلبه في كلمات؟
كم قلب محزون حمل إلى هذا الجناب شكواه، وفؤاد معذب يبث في هذه الساحة نجواه! وكم آثم حط في هذا الفناء الأوزار، ليمحقها بالتوبة والاستغفار! وكم دَنِس جاء ليتطهر من هذا النهر، وكم يائس ورد يستقي الرجاء، ومحروم أقبل يستدر العطاء! وكم نفس مظلومة ترفع ظلاماتها، وأخرى ظالمة تعترف بجناياتها! وكم مكلوم جاء بجراحاته، وأرسل آهاته وأناته! وكم ثاكل يحمل قلبه كسيراً، ويسيل دمعه غزيراً. كل ضارع على هذا الباب، ضائع عند هذه السدّة، يهاب هذا العِظَم، ويرجو هذا الكرم. أكداس من الآلام والآمال، وأشتات من الهموم والأمانيّ، والشكران والشكوى، والدعاء والنجوى، والتضرع والحمد!
ووراء هؤلاء في المشرق والغرب قلوب توجهت شطر هذا البيت كما تتوجه الإبر إلى القطب، وتنزع إليه نزوع الغريب إلى ولده وداره. فكم مصلٍّ في أرجاء الأرض ولّي هذا الجناب وجهه وقلبه! وكم داع قصد هذا القصد على بعد المزار ونأى الديار! أترى