للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدعوات تهفو على الكعبة مع هذا النسيم، والصلوات تتنزل عليها في هذا الضوء، وأسراب الآمال طارت من المغرب والصين لتطوف مع الطائفين؟ أترى سوداوات القلوب اجتمعت فكانت هذا البناء، أم أناسيّ العيون تراكمت فكانت هذه البنيَّة السوداء؟

انظرُ فلا أجد في هذا البناء تمثالاً ولا صنماً ولا وثناً ولا صورة ولا نقشاً. إنما هو التوحيد في خلوصه، والعقيدة في يسرها، والإسلام في فطرته. بيت لعبادة الله يؤمه عباد الله، تجتمع حوله القلوب، وتلتقي في الدعوات! بيت من التوحيد يحسّ، وبناء من الأخوة يُلمس.

ما أروع هذا مشهداً! صلاة ودعاء، وطواف وبكاء، يسيل بها الإصباح والإمساء. من لي بالخلوة في هذا الزحام، والوحدة في هذه الكثرة، والسكون في هذا العباب، والقرار في هذا المحشر! بل من لي بأن أقف على الساحل من هذا البحر لأرى واسمع!!

صعدت إلى مصلى الشافعي فوق زمزم فإذا هو خلاء، فأشرفت على هذا الجمع أرى جموعاً متوحدة، ودعوات متجسدة، وألفاظاً تنطق بمعنى واحد، وظلالاً يمدها نور واحد. وكان للقلب مجال بين الكثرة والوحدة، والظهور والخفاء، والوجود والفناء. وليت اللحظات امتدت فاتصلت بالأزل والأبد!

وينبعث في هذا الدويّ، بل يشع بين هذه الأصوات صوت الأذان: (الله اكبر. الله أكبر)، وينتظم شعار التوحيد هذه الأصوات؛ فإذا الدعاء صمت، والحركة سكون، وإذا هذا الجمع نفس واحدة تصيخ إلى صوت واحد.

ما أجمل هذا الصوت وما أروعه! عظمة الله تغشى هذا المشهد، وكلمة التوحيد تملأ هذا المسجد. قلت لنفسي: (ليت الإنسان يستمع أبدا إلى آذان الفجر في جوار الكعبة!) قالت: (أما الأذان فهو دائم موصول لا تخلو منه ساعة من ليل أو نهار. فالأوقات في أقطار الإسلام مختلفة، فما يسكن أذان في بلد إلا ارتفع أذان في آخر ابد الدهر. تكبير دائم لمن كان له سمع، وذكر مستمر لمن كان له قلب. وأما الكعبة فأنت في جوارها كل حين إن لم تكن أسير البقاع ورهن الحجب).

هلم إلى الرحيل! طفت طواف الوداع، وأديت مع الجماعة صلاة الصبح، وقد أُعدت السيارات والرفاق ينتظرون؛ ولكن النهار لم يسفر فما يعجلني عن هذا المكان؟ هلم قد حان الرحيل وليس من الذهاب بد. ولكن الرحيل يمكن إرجاؤه لأتزود للبين نظرات، واجمع

<<  <  ج:
ص:  >  >>