كانت (راجية) تعلم أنها مفارقةٌ المدينة غداً، ما من ذلك بُدّ؛ لقد حاولتْ أن تنسأ الأجل إلى الرحيل فلم تظفر بطائل، وافتنَّت في الاحتجاج لرأيها ما افتَّنت فلم يستمع لها أحد؛ وأجمعت الأسرة أمرها على السفر إلى الريف لتكون بمنجاة من ويلات الحرب. . . حقاً؟ أيكون الريف أبعد من المدينة عن ويلات الحرب؟ هكذا زعم أبوها وأخوها وليس لرأيهما معقِّب. . .
وراشت راجية آخر سهم في كنانتها؛ فاصطنعت؛ العزم والقوة، وتماسكت من ضعف ورخاوة، وقالت: ولكن، يا أبي، إن للوطن عليّ حقاً يقتضيني الرفاء. ليس من المروءة أن أفرَّ والوطن يدعوني إليه. . . ينبغي أن أبقي لأقوم بواجبي في التمريض والإسعاف إذا لم تكن لي طاقة بحمل السلاح للدفاع والمقاومة؛ ينبغي. . .
وقاطعها أبوها: نعم، ينبغي، ولكن واجبك هناك، في القرية؛ إن اخوتك وأخواتك هناك في حاجة إلى التمريض والإسعاف أكثر من جرحى الحرب!
وابتسم ابتسامة عابسة؛ لقد كان يعلم أي فتاة هي في رخاوتها وضعف احتمالها، ولكنه يقاوم حجة بحجة. . .
وصمتت الفتاة برهة وهي تنقل النظر بين أبيها وأخيها وأمها، ثم هَّمتْ أن تتكلم حين ارتفع صوت المذياع يعلن أنباء الحرب في الميدان القريب ثم سكت، وتلاشى الصَّدى في الغرفة المغلقة على أربع أنفس قلقةٍ مضطربة تتنازعها أهواءٌ وعلل وآمال على خشية وحذر ورِقبة. وقال الفتى بعد صمت: لقد بدأت البادئة فما بدُّ من الخاتمة. . .!
وحدَّقت أمه في وجهه مذعورة، وهتفت: صلاح أتعني. . .؟
قال (صلاح): نعم يا أمي إنه فرضٌ عليَّ يجب أن أتهيأ للوفاء به
وأطرق أبوه وشفته تختلج، وعمَّ الجميعٌ الصمت. . . وشعرت راجية لأول مرة أنها بازاء أمر خطير يقتضيها أن تفكر في هدوء وروية. . . وعادت تنظر إلى أبيها وأخيها وفي عينيها سؤال ليس معها جوابه، وأحستْ إحساس المفارِق يودع أحبابه إلى حيث لا يدري