للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[خيال الشاعر بين الطبع والصنعة]

للأستاذ عبد العزيز البشري

لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ اكثر ما يتكئ في فنه على الخيال. أما العالم فوجهه كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية. نعم لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قرر لذاته. ولكنه يرتفع عن هذا الموضع إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تدق على كثير أو على قليل من الإفهام. ولعل الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز.

وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ اكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا الخيال مهما غلا، ومهما حلق وارتفع، ومهما استحدث واخترع، ومهما لون من الألوان وشكل من الأشكال - فانه مستمد في تصرفه جميعه من الحقائق الواقعة. مبتدئ لابد بها، منته لا مفر في الغاية أيليها. فمن الحقائق الواقعة مادته، وهي مستعارة في كل ما سَّوى وفي كل ما صوَّر وشكًّل ولوَّن.

وذلك بان الإنسان مهما رزق من شدة العقل وأوتي من قوة الخيال، لا يستطيع أن يتصور شيئاً لم يقع عليه حسه. وكيف له بهذا والحس وحده هو السبيل لا سبيل غيره إلى إدراك الإنسان، والى إدراك الحيوان. فدنيا الحيوان هي ما يحيط به ويشهده في مضطربة لا اكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، وما يدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يعدو العلم من طريق القراءة حاستي السمع والبصر. بل إن هذا الإنسان نفسه لو قد كفَّ من أول مولده في محبس لما قدَّر أن دنياه شي غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ولقد يعمد ذهنه إلى التقصي، ولقد يتبسط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ما لم يشهد إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يقع على جديد لا يتصل بمحيطه، ولا يرتبط بأسبابه.

لك الحق بعد هذا الكلام أن توجه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن يعدو الواقع الذي يدركه الحس. فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟

لقد توجه، بادئ الرأي، هذا السؤال، على انك لو فكرت وتدبرت لبان لك الفرق بينهما دون

<<  <  ج:
ص:  >  >>