أهل هلال المحرم والعالم المسكين يكاد يفلت من قيوده ويتحلل من نظمه؛ فكأنما ارتد إلى عهوده الأولى يترصد الفرائس في ألفاف الشجر وأجواف الحفر، ويتعقب الطرائد في بطون الأودية ومخارم الجبال، ثم يشتد عليه سلطان الغرائز المهلكة فيستنشي رَوْح الحياة فلا يجده، ويلتمس ظل الأمان فلا يدركه، ويبتغي عزاء النفس فلا يناله
هذه أوربا العالمة العاملة القوية، قد استحال بنو آدم فيها إلى هياكل صناعية، تتحرك بالبنزين، وتسير بالقيادة، وتعمل بالحيلة، وتهتلك في السبق، حتى أوشكت أن تصطدم فتتحطم
أين الروح الذي كان يحييها؟ وأين النور الذي كان يهديها؟ رجعا إلى مصدرهما الإلهي في الشرق يوم تجهمت لحواريي المسيح، وتنكرت لخلائف محمد، وبنت الأخلاق على قواعد الاقتصاد، والديمقراطية على استبداد الأحزاب، والسلام على طغيان القادة. فكان من ذلك فجيعتها الأليمة في سلامها ونظامها وخلقها، لأن مطامع الاقتصاد لا يقوم عليها خلق، ونوازع الأفراد لا يثبت بها نظام، ونوازي القواد لا يدوم عليها عهد؛ حتى عصبة الأمم التي جمعت فيها أوربا ما بقي لديها من هدى الأنبياء وحكمة الفلاسفة، دفن أشلاءها هتلر في النمسا، بعدما قطع أوصالها الدتشي في الحبشة!! فحال أوربا اليوم كحال الضواري الأوابد، تتباعد بالأثرة، وتتدانى بالخديعة، وتتدافع بالقوة؛ ثم أعوزتها الأنياب والأظفار فجعلت مصانع التجار مسالح، وصهرت أجور العمال أسلحة. وأخذ الساسة والطغاة يتجاوبون بالزئير فوق المنابر، فملئوا الصدور بالرعب، وزعزعوا البيوت بالقلق، وسمموا الحياة بالهم، ونزعوا من قلوب الناس طمأنينة العيش وحرية التصرف ولذة التملك، فانقلبوا عبيداً مسخرين لهذه النظم الطاغية، لا يجدون سلاماً في الأرض، ولا يعتقدون نعيما في السماء!
أخطر ببالك أمم التمدن الحديث، فهل تجد غير صولة تناهض صولة، ودولة تبلع دولة، وأنظمة عراها تغير الإنسان فهي تحتظر، وأخرى هدي إليها الضلال فهي تنتظر؛ والشعوب بين أنصار هذه وأنصار تلك مواد تهلك في التجارب، وأموال تنفق في الأهبة،