إن كان البؤس مؤهلاً لبقاء الذكرى فليس أحد أحق بأن يعيش في ذاكرة الناس من جاسبار هوزيه.
أربى عمره على العشرين ولكنه لم يعش في الواقع إلا أربعة أعوام، وذلك لأن بقية عمره يجب أن تحذف من حساب الأعمار. عاش ما بين العام الذي ولد فيه وبين اليوم الذي بلغ فيه من العمر ثمانية عشر عاماً، وهو يجهل تمام الجهل ما يعلمه الأطفال دون عمد - ما يعلمونه بالغريزة وحدها. كان يجهل مثلا أن في الدنيا مزارع وأن في هذه المزارع طيوراً وزهوراً؛ وكان يجهل أن في الدنيا رجالا وأن هؤلاء الرجال يمشون ويضحكون ويبكون؛ وكان يجهل أن فوقنا سماء وأن في السماء كواكب وأن أحد هذه الكواكب يضئ في النهار وبقيتها تنير في الليل.
هكذا عاش ثمانية عشر عاماً وهو لا يعرف شيئاً عن الدنيا ولا عن الناس ولا عن الأفراح ولا عن الأحزان.
وفي يوم ٢٦ مايو سنة ١٨٢٨ وجد جاسبار هوزيه عند باب مدينة نورمبورج في بافاريا وكان هذا أول عهد الناس به وعهده بالناس.
ولما ترك هذا الباب حاول المشي ولكن قدميه خانتاه لأنه لم يعتد المشي فوقع. وهو الآن يمشي لأول مرة في الطريق وهمهم بأصوات غير مفهومة لأنه لا يعرف الكلام. ولو كان يعرفه لخاطب الناس بمثل هذا القول:
(في هذا اليوم أترك في المرة الأولى سجناً مظلماً وضعت فيه منذ مولدي ولم أنتقل منه، ولم أعرف غيره. ولست بالأعمى ولكن لأول مرة ترى عيناي اليوم ضوء الشمس، ولست بالأصم ولكني إلى ما قبل لحظات لم أكن أعرف ما الأصوات؛ وهكذا أنا بينكم لا أستطيع المشي ولا السماع ولا النظر. إنني رجل ولكنني أقل بينكم من الأطفال.