في أواسط القرن التاسع عشر أصابت العلم هزة من تلك الهزات العنيفة التي تغير مجرى الفكر، وتقلب آيات العلم بعد أن يخيل إلى الناس أن المعرفة قد قامت على قواعدها الرسيسة، رأساً على عقب. ففي سنة ١٨٥٩ نشر العلامة شارلز روبرت دروين كتابه (أصل الأنواع) فأقام الحجة البالغة على أن الأنواع تنشأ في الطبيعة بعضها منظور عن بعض على مر عصور متطاولة، وأن نشوء الحياة من فوق الأرض موغل في القدم.
ولقد أقام دروين نظريته على ثلاث قواعد أولية، هي التناحر على البقاء، والانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح. أما التناحر على البقاء فاصطلاح مجازى يؤدى في أوسع مدلولاته معنيين: فأما أنه يدل على العلاقة القائمة بين الأنواع الحية العائشة في بيئة ما، إذا ما اتجهت الأسباب العاملة على بقاء نوع إلى إبادة آخر أو إفنائه، وإما أنه يدل على الجهد الذي يبذله الأحياء في سبيل الحصول على مقومات الحياة، كمقاومة العوامل والمؤثرات المفنية للأفراد أو المبيدة للأنواع. أما الانتخاب الطبيعي فمحصله أنه يبقى من أفراد الأنواع أو السلالات أقدرها على الحياة في بيئة ما وأن تفنى غير القادرة منها على البقاء. ولما كانت القدرة على البقاء وتخليف المِثْل، إنما ترجع إلى صفات حيوية تتأصل في الأحياء، ونشأ بالانتخاب الطبيعي تدريجياً على مر الأزمان سلالات وأنواع جديدة ممتازة بصفات معينة ثابتة. وقصد باصطلاح بقاء الأصلح أن الأحياء تتكاثر بنسبة رياضية. أي بنسبة ١٦: ٨: ٤: ٢ وهكذا؛ فإذا لم يهلك معظم نتاجها بعوارض طبيعية ضاقت الأرض عن أن تسع الأحياء. ولذا لا يبقى من الأحياء إلا أصلحها أو أقدرها على البقاء ومقاومة العوارض. وما (بقاء الأصلح) في الواقع إلا اصطلاح يراد به إيضاح عمل الانتخاب الطبيعي المقتضى أن الأحياء التي هي أكثر صلاحية للبقاء في بيئة طبيعية تظل حية لتنتج أمثالها، في حين يفنى غير الصالح منها على هذه القواعد الثلاث شرع دروين مذهبه الذي اتجاه العلم الطبيعي برمته في أواسط القرن الماضي. أما الذين اكبوا على دراسة الاجتماعيات فقد تساءلوا: إذا كانت سنة الطبيعية الثابتة تقضى، لخير النوع وبقائه