من ذكرياتي التي أنتعش كلما حلقت في سمائها سويعات ممتعة ألقيت فيها محاضرة على زمرة من أساتذة العالم العربي في مدرسة، طالما حنت أضلاعها على جهابذة قادوا الرأي العام الإسلامي وبقوا مصابيح هداه في عصر كانوا هم المهيمنين على جميع مقدرات أمة القرآن. منذ بضع سنوات طرق النجف الأشرف وفد الجامعة المصرية وفي طليعته الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الزيات حين كان رسول الأدب إلى عاصمة المأمون. إذ ذاك تحفزت لمقابلة تلك العبقريات اللامعة التي أنفقت ليالي في الاستمتاع بثمراتها الغنية بالغذاء الروحي؛ ما هي إلا خطوات أثقلتها الخواطر والعزمات حملتني أن أغادر مدرسة السيد كاظم البزدي (إحدى المدارس الإسلامية الكبيرة في النجف الأشرف) لاستقبال موكب االثقافة، وإذا بجلبته تملأ مدخل المدرسة الشمالي، فوقفت تحت مصباح زيتي يلفظ أشعته الباهتة كأنه رمز عصر ينقرض؛ في سكون المدرسة الذي زاده اعتكار الليل وروعة المفاجأة - هيبة وجلالاً - وقفت أحدث أفلاذ القاهرة عن قطعة من جسم مزقته الحوادث القاسية عن الحركة العلمية والأدبية في هذا البلد الطيب، أحاطوا بي يصغون إليّ وقد تآلفت القلوب الخفاقة وألهبت العواطف دم العروبة الإسلامية فكللنا بهالة من روابط روحية قدسية. وتمضي الأيام وإذا بسماحة السيد أمين الحسيني ورفيقه دولة محمد علي علوية يزوراننا فأجتمع بهما في نفس البنية لأحداثهما عن حياتنا الدراسية، فأجد في إقبالهما وابتهاجهما طلائع الوحدة العربية والإسلامية تتجلى متجلببة هذه النزعة للتعارف فالتآلف فالتضام؛ وحقاً إن الحركة العلمية في هذه البقعة وأساليب الدراسة - ذات أطراف وأفانين شائقة تتطلع لتفرسها النفوس تواقة لما فيها من مزايا وصبغة خاصة وليدة عوامل عديدة لم تجتمع لغير هذه المعاهد، فقد لاحظت ذلك حتى في الغربيين إذ جاءنا سرب من الأمريكان والإنكليز منذ أيام فزاروا المدرسة وبينت لهم طرفاً من سير الدراسة وترجمت لهم إلى الإنجليزية حديث بعض إخواني من أساتذة ذلك المعهد، فأثار الوضع إعجابهم ولم نشعر إلا وآلات التصوير صوبت شطرنا تلتقط المشاهد المختلفة كأنها تحاول أن تلقي علينا درساً عن تقديس السياح الغربيين للمادة المحسوسة في موضع لم يكترث فيه أبناء مصر وسورية