ليت شعري ماذا كان يمكن هذا المخلوق أن يكون لو انه تعلم؟ الغالب في الظن انه لو كان تعلم الحقوق لما برع إلا في ابتكار الحيل التي تحمي اللصوص، وتأليف الحجج التي تخدع القضاة، وتدبير الخطط التي تضلل الشرط. ولو كان تعلم الطب لما اشتغل إلا بتركيب السموم، وتزوير الشهادات، وتخدير المدمنين، وإجهاض الحوامل. ولو تعلم الأدب لما نبغ إلا في قصص التجسس والتلصص والائتمار والدعارة. ولو كان تعلم الزراعة لما برز إلا في زراعة التبغ والأفيون والحشيش. ولو كان تعلم الهندسة لما افتن إلا في اختراع المخابئ السرية والمزالق الجهنمية والمفاتيح التي تتحدى كل قفل
ذلك لان كل نزعة للشر أو نزعة للشيطان إنما وجدت أصلها فيه بحكم الطينة ومقتضى الفطرة، فهو قروي أمي فقير وضيع، ولكن غرائزه الشريرة العارمة تندلع من جوانب جسمه كألسنة اللهب أو أرجل الأخطبوط فتجعل له شخصية غريبة فيها لكل ضرر مصدر، ولكل خطر اتجاه!
نشأ بين لِداته من أطفال القرية كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام؛ فكان لا ينفك ضارباً هذا بعصا، أو قاذفاً ذاك بحجر، أو خاطفاً لعبة من بنت، أو سارقاً شياً من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والجان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم، ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم. وهو في غضون هذا العهد (التحضيري) كان لا يفتأ يمرن ملكاته الإجرامية لحسابه الخاص، فكان يسرق من البيوت الآنية والثياب، ومن الحقول القطن والذرة، حتى صار في حد الرجال، فعد من ذؤبان القرى وغربان الأسواق؛ فكل جريمة له فيها يد، وكل سرقة له منها نصيب!
وكانت مزيته بين اللصوص التجسس والاحتيال والمفاوضة وإخفاء المسروق وتعمية الأثر، لأنه كان ضئيل الحلقة فلا يرهب بمنظره، ضعيف القوة فلا يغني بعضله. ثم تفاقم شره واستطار أداه، فكان لا يقع إلا على منكر، ولا يتقلب إلا في معصية. غير إن إجرامه ظل من النوع الحقير لضعف بنيته وضعة بيته، فلم يستطع أن يكون رئيس منسر يفرض الإتاوة بالسطوة، ويستغل اللصوص بالنفوذ؛ إنما كان أكبر همه أن يسطو في الليل على