قال بعضنا لبعض بعد يوم السبت الذي خرب العامر وقوض السامر وأطفأ المضيء: ليس لنا من سبيل إلا أن نلوذ بالريف ريثما تعيد الوزارة الجديدة الأمن إلى النفوس والأنس إلى العاصمة.
وفي صباح يوم السبت الذي وليه كنا في الطريق إلى القرية؛ وكان الجو سافرا والنسيم فاترا والحقول بهيجة؛ ولكننا لم نكد نقطع بعض الطريق حتى برد الهواء وأضبَّت السماء وأنهمل المطر. وظل أنهمال المطر أربع ساعات متواليات تركت بعدها الطريق ترعة متصلة الماء بالسماء تجري فيها السيارة كما يجري الزورق البخاري في النهر. ثم كانت عاقبة هذا الغيث الهتون أن تخلص الجو من الغبار، وتطهر الشجر من الأقذار، وتألقت القرى والحقول بالجمال والنضرة. فقلنا: يا لله! ما أبعد الفرق بين سبت وسبت! ذلك سبت كان فيه النار والدمار واليأس نهاية مرحلة، وهذا سبت كان فيه الماء والنماء والأمل بداية مرحلة!
ودخلنا القرية والتأم شمل الأهل وانتظم عقد المجلس، وأقبل شيوخ الفلاحين ممن يقرءون الصحف أو يسمعون الإذاعة يتناقلون أحاديث القنال وأحداث القاهرة وتغيير الوزارة. وقد لاحظت من مناقلة الرأي أن القرويين لم يعودوا يزنون أعمال الحاكمين بميزان المواد الخسيسة كتخفيض (المال) وإسقاط (الخفر) ورفع (السخرة)؛ وإنما أصبحوا يزنونها بميزان المعاني الكريمة كالدراية الواسعة، والكفاية الممتازة، والسياسة الرشيدة، والإرادة القوية، والإدارة النزيهة، والغاية الشريفة. وهذا الفضل كله إنما كانوا يعتقدونه في وزيرين اثنين كانت صلتهما بالجمهور صلة معنوية تتمثل في تعليم الشعب واستقلال الوطن، هما طه حسين وصلاح الدين! فإذا أسف الناس على أحد من أعضاء الوزارة المعفاة من الحكم فإنما يأسفون على هذين الرجلين اللذين سَموا بالمنصب على الشهوات، وربآ بالحكم عن الشبهات، وكانا للأمة بين ذوي الآراء المرتجلة والأهواء العابثة، العوض من الخسارة والعزاء عن المصيبة. فلو أنهما خرجا على نظام الحزبية ودخلا في الوزارة الماهرية لكانت الوزارة الجديدة فوزا كاملا وفرحة خالصة.
أما رأيهم في علي ماهر فهو رأي الغريق في مِنطقة النجاة! لم يعرفوا عنه إلا أنه عدو الإنجليز وعدو الفوضى وعدو المحاباة وعدو الروتين وعدو التلكؤ، فهو رجل الساعة