(كتب إلى صديق كبير وأستاذ جليل ممن عرفت في مصر أن أصف له مدخل دمشق، وأن أعرفه بمتنزهاتها وآثارها، وإن ذلك لمطلب على مثلي عسير، وحمل علي قلمي ثقيل، وإني أحاوله اليوم محاولة ريثما ينهض به من هو أضخم مني في زحمة الأدب منسكباً، وأحد فكرا، وأمضى قلما. . .).
هذي دمشق يا أيها الأخ السائح، قد لاحت لك أرباضها، ودنت رياضها، أفما تراها وأنت قادم عليها من نحو فلسطين، مع الصباح الأغر كيف نامت من غوطتها على فراش من السندس صنعته يد الله، وقد توسدت ركبتي حبيبها البطل الشامخ بأنفه الصخري: قاسيون، فكان رأسها في الصالحية، وقدمها في (القدم) وقلبها في (الأموي) بيت الله الأطهر، فانظر أما تراه أول ما يبدو من دمشق للقادم عليها، يطل على بقيته التي ليس لها في الدنيا نظير: قبة النسر التي راعت بجلالها الأولين والآخرين وما رأى الرائي أضخم منها ولا أعلى، ومآذنه الثلاث معجزات الصنعة في تاريخ العمران الإسلامي، يسبغ على المدينة جلال القرون الأربعين التي رآها وعاشها، مذ كان معبداً وثنياً، إلى أن صار منسكاً مسيحياً، إلى أن استقر مسجداً إسلامياً، يخرج من مناراته خمس مرات كل يوم النداء الأقدس:(الله أكبر لا إله إلا الله) فيردده إخوان مسلمون في الشرق، وإخوان في الغرب حتى يفيض طهره على الأرض كلها. ألا تراه يعلو كل عمارة في المدينة على ما فيها من عمارات شاهقة، حتى كأن أعلاها إلى جانبه الطفل بجنب الرجل الضخم الطوال؟ فإن كان برج (إفِّل) علم بارز وذلك التمثال علم نيويورك. فعلم دمشق بيت الله العلي ذي الجلال.
لقد دنونا، وهذا المطار إلى يمينك، وهذه القرية من ورائه (داريا)، والغوطة الغناء، جنة الأرض، ما رآها أحد إلا أحس بأنه يرى مدينة مسحورة من مدن (ألف ليلة. . .)، وقد ترامت له من غمرة حلم ممتع. . . لقد اقتربنا منها. . . هذه (المزة) ضاحية دمشق، أصح المنازل، وأبعدها عن العلل، مساكن العرب الغر من سالف الدهر، لقد جاوزنا سهلها المشرق، وجبلها المشرف، وساحتها الفيحاء، وعماراتها البارعات، وولجنا حمى الغوطة. هذه بساتينها التي تتصل حافلة بالثمار، مليئة بكل ما يفتن ويفيد، مسيرة تسع ساعات على