من حيوية الفن الحق أن يتجدد أثره في النفس برغم تقادم العهد، بما يبعث في نفس المتأمل من أحاسيس. وإني لأجد اليوم في الحديث عن (ليالي الملاح التائه) نشوة المقبل على شئ جديد وما ذاك إلا لتجدد ما يهيجه الديوان من بوارق الحس. وسنحاول في هذا المقال أن نسبر غور هذه النفس الشعور ونرجع عبقريتها الفنية إلى أسسها الأصلية. تنهض شاعرية الليالي على أساسين: سعة العقل المطلع، ومضاءة الشور الفني. فانك لتلمح أثر العامل الأول في مسايرة الشاعر لكل ما يضطر في عالم الإنسانية من أفراح وأحزان. فقد طلع علينا الشاعر الفنان في كثير من المناسبات وسجل الكثير من المرائي الفاتنة، وإن ذلك ليظهر جلياً في قصائده مصرع الربان، وبحيرة كومو؛ وليس أدل على أصالة هذا الأساس في نفسه من مسايرته له في كل الأحايين، وما عهدنا بقصائد: عيد الميلاد، وستالينجراد ببعيد!. . . مثل هذا يدل على أن الشاعر قد نزع قيود الشخصية المحدودة وحلق في جو الإنسانية الفسيح فأطلع طائره يمجد مصرع الربان، وداعب قيثاره يخلد ثبات ستالينجراد، وذاب لهفة وتقديراً وإعجاباً بفتنة فينسيا. ورأى بحيرة كومو وراقه منها:
بهج في كنوزها ... للمحبين مدّخر
بابل أم بحيرة ... أم قصور من الدرر
أم رؤى الخلد في الحياة تمثلن للبشر
هاله السحر منها فهتف:
لا تقل أخصب الثرى ... فهنا أورق الحجر!!
وما كان ليستطيع أن يقول سوى هذا وهو العابد للجمال والقائل:
هاهنا يشعر الجماد ... ويوحى لمن شعر!
تلك لمحة تكشف عن انطلاق شاعرنا من قيود البيئة المحدودة ونظرته إلى مفاتن ومباهج