من عادتي كلما ثقل على الحاضر وضاقت بي الحال أن أعود إلى ماضيَّ فأنشر عهوده وأَجْترَّ ذكرياته. وسبيلي إلى ذلك استغراق الفكر فيما سجلت صحائف الصبي من حوادث، أو العيش مع إخواني الذاهبين فيما كتبت وكتبوا من رسائل، أو الرجوع إلى ما دوَّنتُ في مذكراتي اليومية من خواطر. وكان ليناير من دون الشهور نوطة شديدة بالقلب وأثر بالغ في الذاكرة؛ فوقع في نفسي وأنا أهم بالكتابة فيما أوحاه إلىَّ أسبوعه الثاني، أن أتصفح مذكراتي لأقرأ ما كتبته فيه سنة من السنين.
فتناولت جزءاً من أجزائها المتروكة وفتحته على موضوع هذا الشهر منه فإذا بي أقرأ في يومه الرابع عشر ما أنقله إليك بحرفه:
يوم الجمعة ١٤ يناير سنة ١٩٣٨
في مثل هذا اليوم من سنة ١٩٣٢ وُلد لي ولدان: طفل وكتاب. اذكر هذا كل الذكر، لأنني في ذلك اليوم المقرور عدت في مُتوع الضحى من دار المعلمين بالكرخ إلى داري بالرصافة، فلزمتها جالساً أمام المدفأة الموقدة أكتب الفصل الأخير من كتابي؛ (العراق كما رأيته). ثم جاءني النبأ من مصر بعد ذلك بأن (رجاء) ولد في هذا اليوم نفسه. وكان طفلي وكتابي أعز شيء عليّ؛ لأن ابن نفسي كان نتيجة أربعين سنة من خير عمري، وأبن فكري كان نتيجة ثلاث سنين من خير عملي
أجل، قضيت ثلاث سنين في تأليف (العراق كما رأيته)! جمعت مادته من الآثار والأسفار والأساطير والكتب والمناظر والأحاديث في سنتين، ثم حررته وأنشأته ببغداد في سنة؛ فلم أكتب منه في القاهرة إلا رحلتي إلى كردستان والموصل وجبال عبدة الشيطان، وإلا عودتي إلى سورية عن طريق دير الزور وحلب. ثم وجهت عزيمتي إلى نشره فهيأته للطبع وتربصت به مواتاة الفرصة. ولكن اثاقلت حتى وفد إلى مصر صديق من رجالات العراق له بصر وخطر، فرغب أن يقرأ فيه ما كتبت عن بعض الناس وما علقت على بعض الحوادث، فحملته إليه في (الكنتننتال) فحبس نفسه عليه نصف نهار لم يبرح فيه الفندق. ثم رده إلى في المساء وهو يقول في سمته الرزين ومنطقه المتئد: (أشهد أن كتابك أول ما كتب عن العراق في صراحة ولباقة وإخلاص وصدق. ولقد طويت عني ما قلته فيَّ، ولكنني بعد أن قرأت ما قلته في غيري أكاد أعرفه بالاستنتاج والحدس. ولعل من