طالعت في شبابي الجزء الأول من (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر) وهو المعروف عند الناس بمقدمة ابن خلدون. وقد وعيت يومئذ مباحثه، وقيدت الذاكرة ما استطاعت من فوائده - وإنها وأبيك لكثيرة - ثم فر جلها، وقر بعضها و (اختلاف النهار والليل ينسى) كما يقول شاعرنا (أحمد الثالث). فلما قرأت في مقالة (التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار في القديم) في (الرسالة) الهادية الموقظة هذه الجملة: (ولأبن خلدون بحث عن الكهانة خذله فيه التحقيق) تذكرت كتاب عبد الرحمن، ورجعت إليه أنشد حديثه عن الكهانة والكهان. وذهبت أتلوه تلاوة المتبصر، فلما تممته لم أتمالك أن كررت عبارة تلك المقالة:(. . . خذله فيه التحقيق) فقد ألفيت العبقري الألمعي إمام الباحثين الناقدين، ومعلن مغالط المؤرخين قد جره الضلال بجرير طويل، وقاده الوهم والخيال قود الذلول، فتقبل - مطمئن النفس - شعبذات الكهانة ومخارق العرافة وخزعبيلات العائفين، وآمن بشق وسطيح. وهذه طائفة مما قال:
(إنّا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها، وأهل الزجل في الطير والسباع، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى. وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها. . .)
(إن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها، وإنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء)
(وإن هنا صنفاً آخر من البشر - يعني الكهان - ناقصاً عن رتبة الصنف الأول - يعني الأنبياء -)
(وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة)
(ونفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات)
(ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة)